الحق أحق أن يُتَّبع (2-2)

  • 157

نستكمل ما ذكرناه وأكدنا عليه فى المقال السابق من أن البعض ربما علم الحق ولم يتَّبعه لأسباب متنوعة ، وقد ذكرنا قصة هرقل عظيم الروم الذى علم الحق لكنه لم يؤمن به من أجل الكرسى الزائل والملك الفانى، وفى قصة أبى طالب المشهورة عَنِ ابْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: «أَيْ عَمِّ، قُلْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَلَمْ يَزَالاَ يُكَلِّمَانِهِ، حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ» فَنَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ} [التوبة: 113]. وَنَزَلَتْ: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56](أخرجه البخارى ) فتأمل كيف للعصبية أن تكون سببًا فى منع الإنسان من اتباع الحق وهو يعلمه ويوقن به ، وكان أبو طالب يدافع عن رسول الله فى أمر الدعوة إلى الله تعالى وكان يقف حصنًا منيعًا أمام المشركين من أن يؤذوا ابن أخيه ،وكان يعلم أنه على الحق ،لذا سيخفف الله عنه العذاب يوم القيامة بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم له عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الحَارِثِ، حَدَّثَنَا العَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: «هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ»أخرجه البخارى )
 
وفى قصة إبليس عليه لعنة الله، ترى الإعراض عن طريق الحق بسبب العجب والكبر والعياذ بالله
 
قال تعالى (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)) ، وفى الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) أي: من الطين، فإبليس مخلوق من النار، والملائكة مخلوقة من النور، ولكن إبليس كان مطيعًا لله تعالى حتى صار كواحد من الملائكة  كما أن النبي الله صلى الله عليه وآله وسلم صعد في رحلة المعراج إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، ، فلما قيل للملائكة: ((اسْجُدُوا لِآدَمَ)) كان الأمر لإبليس أيضًا كواحد منهم ،فرفض إبليس السجود لآدم عليه السلام ، واستكبر ونظر إلى شىء واحد وهو أصل الخليقة ولم ينظر إلى عظمة من أمره بالسجود وهو الله تعالى ثم قال  { رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الأعراف:14].فهو يعلم أن الله هو ربه وأن العمر بيد الله وحده وأن الله هو الذى يُدعى ،وهو يقر باليوم الآخر ، ولكنه كفر بالله لأن حقيقة الإيمان هى الطاعة والانقياد ،وهكذا علم إبليس الحق وكفر به وحاد عنه ،لذا أقول إنه يجب على من علم الحق أن يتبعه ولا يحيد عنه ولو خالف هواه وأمانيه ، فالحق أحق أن يتبع ، وقال عمر رضي الله عنه، الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.والرجوع إلى الحق صعب على المستكبرين حتى كأنه يتكلف فى ذلك الصعود إلى السماء  والاعتراف بالحق من الفضائل ومن شيم الرجال قالالْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَالرِّجَالُ أَرْبَعَةٌ : رَجُلٌ يَدْرِي وَلا يَدْرِي أَنَّهُ يَدْرِيفَذَاكَ غَافِلٌ فَنَبِّهُوَهُ ، وَرَجُلٌ لا يَدْرِي وَيَدْرِي أَنَّهُ لايَدْرِي فَذَاكَ جَاهِلٌ فَعَلِّمُوهُ ، وَرَجُلٌ يَدْرِي وَيَدْرِيأَنَّهُ يَدْرِي فَذَاكَ عَاقِلٌ فَاتَّبِعُوهُ ، وَرَجُلٌ لا يَدْرِي وَلايَدْرِي أَنَّهُ لا يَدْرِي فَذَاكَ مَائِقٌ فَاحْذَرُوهُ " ..وَفِي قِصَّةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمَشْهُورَةِ، أَنَّهُ جِيءَ بِامْرَأَةٍ مِنْ جُهَيْنَةَ تَزَوَّجَتْ، فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَبَعَثَ بِهَا عُثْمَانُ لِتُرْجَمَ، اعْتِقَادًا مِنْهُ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا قَبْلَ الْعَقْدِ لِوِلَادَتِهَا قَبْلَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ،وَيَقُولُ - جَلَّ وَعَلَا -: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ فَلَمْ يَبْقَ عَنِ الْفِصَالِ مِنَ الْمُدَّةِ إِلَّا سِتَّةُ أَشْهُرٍ.فَمَا عَبِدَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ بَعَثَ إِلَيْهَا لِتُرَدَّ وَلَا تُرْجَمَ.وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنَ الْقِصَّةِ، فَوَاللَّهِ: (مَا عَبِدَ عُثْمَانُ) أَيْ مَا أَنِفَ وَلَا اسْتَنْكَفَ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ.، وهذا عبيد الله بن الحسن بن الحصين العنبري التميمي قاضي البصرة. ولي قضاء البصرة وكان محمودًا ثقة عاقلًا. قال الوثيق بن يوسف: ما رأيت رجلًا قط أعقل من عبيد الله بن الحسن، سئل عن مسألة وهو في حضور جنازة فأخطأ فيها فقيل له: الحكم فيها كذا وكذا فأطرق ساعة ثم قال: إذا أرجع وأنا صاغر ، لأن أكون ذنبًا في الحق أحب إلي من أن أكون رأسًا في الباطل. و عن عمرو بن مهاجر قال قال لي عمر بن عبدالعزيز : إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يدك في تلابيبي , ثم هزني , ثم قل لي ماذا تصنع ، وذكر القاضي ابن العربي في كتابه: " أحكام القرآن  ، قالَ:  أخبرني محمّد بن قاسم العثماني غيرمرّة،قال : وصلتُ الفسطاطَ مرةً ، فجئتُ مجلس الشيخ أبي الفضل الجوهريّ ,وحضَرتُ كلامه على النّاس ، فكان ممّا قال في أول مجلس جلستُ إليه:إنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلم- طلّقوظاهروآلى ، فلما خرج تَبِعْتُه حتى بلغتُ معه إلى منزله في جماعة ،فجلس معنا في الدِّهْلِيز وعرّفهم أمري ؛فإنه رأى إشارة الغُربة ،ولم يَعرف الشخص قبل ذلك في الواردين عليه ، فلما انفضّ عنه أكثرهم ،قال لي: أراك غريبًا ، هل لك من كلام؟ ، قلت : نعم ، قال لجلسائه : أفرجوا له عن كلامه ، فقاموا وبقيت وحدي معه ، فقلت له: حضرتُ المجلس اليوم متبرّكًا بك ،وسمعتك تقول : آلى رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- وصدقتَ , وطلّق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-وصدقتَ ,وقلتَ: وظاهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا لم يكن !ولا يصح أن يكون ؛لأنّالظّهار منكر من القول وزور،وذلك لا يجوز أن يقع من النّبي -صلى الله عليه وسلم -فضمّني إلى نفسه وقَبَلَ رأسىوقال لي:أنا تائبٌ من ذلك جزاك الله عني من معلمٍ خيرًا .ثم انقلبتُ عنه ، وبكَّرت إلى مجلسه في اليوم الثاني ، فألفيته قد سبقني إلى الجامع ،وجلس على المنبر ، فلما دخلتُ من باب الجامع ورآني ؛ نادى بأعلى صوته: مرحبًا بمعلمي ؛ أفسحوا لمعلمي !!فتطاولت الأعناق إليَّ ، وحدقت الأبصار نحوي ، وتبادر الناسُ إليَّ يرفعونني على الأيدي ، ويتدافعونني حتى بلغت المنبر ،وأنا لعظيم الحياء لا أعرف في أي بقعة أنا من الأرض، والجامع غاصٌ بأهله ، وأسال الحياء بدني عرقًا ،وأقبل الشيخ على الخلق فقال لهم :أنا معلمكم وهذا معلمي!  ، لمَّا كان بالأمس قلت لكم: آلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطلّق وظاهر ؛فما أحدٌ منكم فَقُهَ عني ولا ردَّ عليَّ ، فاتبعني إلى منزلي وقال لي: كذا وكذا ،وأعاد ما جرى بيني وبينه-وأنا تائب عن قولي بالأمس ، راجعٌ عنه إلى الحقّ،فمن سمعه ممن حضر فلا يعوِّل عليه ، ومن غاب فليبلغه من حضر ،فجزاه الله خيرًا , وجعل يحفل في الدّعاء والخلق يؤَمّنون .قال ابن العربي معلّقًا: فانظروا رحمكم الله إلى هذا الدّين المتين ، والاعتراف بالعلم لأهله على رؤوس الملأ ،من رجلٍ ظهرت رياسته ، واشتهرت نفاسته ، لغريبٍ مجهول العين لا يعرف مَنْ؟ولا مِنْ أين؟ ، فاقتدوا به ترشدوا،هكذا كان السلف وهكذا يجب أن نكون والله المستعان.