الالتزام بين الحقيقة والخيال (1)

  • 182

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول، الله وبعد:
اعلم أخي المسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم نصره الله تعالى بفضله ثم بصحابة كانوا قرآنا يمشي على الأرض، فكانوا يأكلون الطعام ويمشون بالأسواق، لكن صار كل فرد منهم أنموذجًا مجسمًا للإسلام ويراه الناس، فيرون الإسلام فإن الناس لا تتأثر بالنصوص وحدها حتى ترى سلوكًا عمليًا يحيا على الأرض؛ فإن للمسلم سمات معينة لابد له أن يتحلى بها، وعلى وجه الخصوص؛ أهل الالتزام..
 
يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: "إن النصوص وحدها لا تصنع شيئًا، وإن المبادئ وحدها لا تعيش إلا أن تكون سلوكًا؛ ومن ثَم جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هدفه الأول أن يصنع رجالًا لا أن يلقي مواعظ، وأن يصوغ ضمائر لا أن يدبج خطبًا. وأن يبني أمة لا أن يقيم فلسفة، أما الفكرة ذاتها فقد تكفل بها القرآن، وكان عمل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُحَوِّل الفكرة المجردة إلى رجال تلمسهم الأيدي، وتراهم العيون، لقد انتصر الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أن صاغ من الإسلام شخوصًا، وحول إيمانهم بالإسلام عملًا، وطبع من المصحف عشرات من النسخ ثم مئات وألوفًا؛ ولكن لم يطبعها بالمداد على صحائف الورق، وإنما طبعها بالنور على صحائف من القلوب، وأطلقها تعامل الناس وتأخذ منهم وتعطي وتقول بالفعل والعمل؛ هذا هو الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم".اهـ
 
إننا نعاني من بعض الآفات التى انتشرت بين بعض الملتزمين والملتزمات ومن أخطر الآفات على الإطلاق، «الانفصام في الالتزام» فحدث هذا التناقض العجيب في شخص واحد، أصبحنا نرى تناقضا واضحا بين الشعائر التعبدية وبين السلوك والأخلاق؛ فإن كثيرًا منا إذا التزم وقف بالتزامه عند دائرة معينة لم يتعدَّها وغالبًا تكون دائرة الهيئة والشكل وأداء بعض العبادات، وهذه أمور بلا شك من الالتزام بالشرع ولكنها لا تكفي وحدها، إياك أن تظن أن الالتزام ينحصر في القميص والسواك واللحية... لا.
 
بل لابد أن يكون مفهومنا عن الالتزام أعمق من ذلك، وأن نأخذ الدين كله بشموله وكماله فلن ينتصر المسلمون بهذا الالتزام الأجوف وبأعمال ظاهرها الصلاح وباطنها الفساد، لابد أن نرى الالتزام في العقيدة والإيمان، وفي العبادة والأعمال، وفي المعاملات والسلوك والأخلاق وفي الدعوة إلى الله.
 
فلابد للملتزم أن يتغير من داخله حتى يكون كالمصباح يُضيء لمن حوله، لابد من وجود العلم والعمل والسلوك والدعوة في حياة الملتزمين، قال تعالى فى سورة النور: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} وهذا هو النور الحسي والمعنوي؛ لأن الله تعالى بذاته نور، وحجابه نور كذلك، ولولا لطفه لأحرقت سُبُحَات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، وبهذا النور استنار الكون كله، السموات والأرض وما بينهما. كقوله عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ: (اللهم لك الحمد أنت نور السموات وَالْأَرْضِ). وَقَالَ عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ وَقَدْ سُئِلَ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: (رَأَيْتُ نُورًا). إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ. وكذلك النور المعنوي يرجع إلى الله، فكتابه نور، وشرعه نور، والإيمان به نور والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين نور.
 
 فلولا نوره تعالى لتراكمت الظلمات {مَثَلُ نُورِهِ} الذي يهدي إليه، وهو نور الإيمان والقرآن في قلوب المؤمنين، {كَمِشْكَاةٍ} أي: كوة {فِيهَا مِصْبَاحٌ} والكوة تجمع نور المصباح بداخلها بحيث لا يتفرق، {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } والزُّجَاجَةُ من صفائها وبهائها {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} أي: مضيء إضاءة الدر. {يُوقَدُ} ذلك المصباح الذي في تلك الزجاجة الدرية {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} أي: يوقد من زيت الزيتون الذي ناره من أنور ما يكون، {لا شَرْقِيَّةٍ} فقط، {وَلا غَرْبِيَّةٍ} فقط، بل تصيبها الشمس أول النهار وآخره، فتحسن وتطيب، ويكون أصفى لزيتها؛ ولهذا قال: {يَكَادُ زَيْتُهَا} من صفائه {يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} فإذا مسته النار، أضاء إضاءة بليغة {نُورٌ عَلَى نُورٍ} أي: نور النار، ونور الزيت، وهكذا نور الإيمان فى قلب العبد المؤمن، ونور الله في قلبه، أن فطرته التي فُطر عليها بمنزلة الزيت الصافي؛ ففطرته صافية مستعدة للتعاليم الإلهية والعمل والعبادة، فإذا وصل إليه العلم والإيمان، اشتعل ذلك النور في قلبه بمنزلة اشتعال النار في فتيلة ذلك المصباح، وهو صافِ القلب من أى خلل فى نيته.
 
 فلابد للمسلم الملتزم أن يتغير من داخله حتى يكون كالمصباح يُضيء لمن حوله، لابد من وجود العلم والعمل والسلوك والدعوة في حياة الملتزمين؛ فلن نستطيع أن نٌضيء لمن حولنا إلا إذا وُجد بداخلنا النور الذى ينير قلوبنا أولا. والله المستعان!