الإسلام دين رحمة وهداية 2

  • 173

استكمالًا لما بدأناه في المرات السابقة من توضيح لبعض المعاني الـمُشكلة في النصوص الشرعية, وتجلية للفهم الصحيح، بمرعاة الجمع بين النصوص الواردة في المعنى الواحد، وهو ما يُميِّز أهل السنة والجماعة عن غيرهم, وردًّا على الطاعنين في السنة النبوية الشريفة، المشككين فيها لضعف أفهامهم عن الجمع بين النصوص، وقلة بصيرتهم, نُفصِّل في حديث ثابت صحيح من أحاديث رسولنا الكريم، وهو قوله: (من بدَّل دينه فاقتلوه) وهذا الحديث رواه البخاري عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس، و عكرمة ثقة لم يُضعفه أحد، كما أنه لم يروِهِ عكرمة وحده، وإنما رواه الطبراني عن أبى هريرة، ومالك عن زيد بن أسلم بسند صحيح.
 
فإن من رحمة الإسلام، وحرصه على دعوة الناس، وهدايتهم إلى التوحيد، أن جعل الحرية للعبد في أن يختار الإسلام طواعية، ومن غير إكراه؛ لأن الدخول في الإسلام يحتاج إلى قناعة القلب، ولا يمكن التحكُّم في القلوب؛ لأنها بين يدي الرحمن، يُقلِّبها كيف يشاء.
 
وفي نفس الوقت جعل الله العقوبة بالغة لمن دخل في الإسلام ثم خرج منه؛ حمايةً لجناب التوحيد والإيمان الذي هو المقوم الأساسي الذي يقوم عليه المجتمع المسلم.
 
فالمجتمع المسلم مجتمع إيماني في المقام الأول، والحفاظ على الدين من أجل حماية المقاصد الشرعية من المنفلتين الذين يرفعون راية التمرد عليها؛ فالمرتد عن الدين مُعلِي لراية الحرب على الإسلام؛ ولذا استحق الجزاء.
 
فإقامة الحد على الـمُرتد إذن ليس لإكراهه على الدخول في الدين، وإنما عقوبةً له على كفره برب العالمين، بعد أن اتضحت له سبل الهدى، واستظل بظل الإسلام، وأيقن سماحته وشموله وصلاحيته لكل الناس، وعلم أنه الدين الحق الـمُنزَّل من عند الله، والـمُنزَّه عن التحريف والتبديل.
 
يقول خالد عبد المنعم الرفاعي في إجابة لفتوى له على موقع الألوكة: "ولتعلم -رعاك الله- أن ما يُروَّج له في واقعنا من حرية اختيار الدين، أو حق الرِّدَّة، وأن قتل المرتد نوعٌ من السلب لحقوق الناس؛ شُبهَة قديمة، قال بها كثير من المستشرقين، وقام بإحيائها في عصرنا الـمُنَصِّرُون والعلمانيون والليبراليون وغيرهم من المنهزمين أمام الحضارة الغربية، مما حدا بهم إلى التعدي على ثوابت الأمة، ومخالفة الإجماع اليقيني والنصوص القطعية؛ بل يحتجون ببقوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) على حرية الخروج عن الإسلام.
 
ولا وجه في الآية الكريمة لما ذهبوا إليه من إباحة الكفر؛ لأن الآية تتحدث عن موقف المسلمين من الكافر الأصلي، وهو بخلاف الـمُرتد الذي كان مسلمًا ففارق الجماعة، ومعنى الآية: "لا تُكرِهوا أحدًا على الدخول في الإسلام؛ فإنه بيِّن واضح، جَلِيَّة دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكرَه أحد على الدخول فيه". قاله ابن كثير في "تفسيره".
 
ومما يُبيِّن ذلك، سبب نزول الآية الكريمة، وهو أنَّه "لـمَّا أُجْلِيَ بنو النَّضِير، وكان فيهم مَنْ تَهَوَّدَ من أبناء الأنصار، قالوا: لا نَدَعُ أبناءَنا، فأنزل الله: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)"؛ رواه أبو داود والنسائي.
 
وروى زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سمعت عمر رضي الله عنه، يقول لعجوز نصرانية: "أسلِمي أيتها العجوز؛ تَسْلَمي؛ إن الله بعث محمدًا بالحقِّ"، قالت: أنا عجوز كبيرة، والموت إليَّ قريب، فقال عمر رضي الله عنه: "اللهم اشهد"، وتلا: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ).
 
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، "أنَّ هذه الآية نزلت فيمن دخل اليهودية من أبناء الأنصار؛ أنهم لا يُكرَهون على الإسلام". رواه أبو داود في "سننه"، وهذا القول رجحه شيخ المفسرين ابن جرير الطبري.
 
من ناحية أخرى، إن سقف الحريات مهما علا في المجتمعات المدنية فله سقف, وأهم ما يحافظون عليه هو الدولة؛ فإذا فعل فعلًا يضر بكيان الدولة وبقائها، عوقب على ذلك أشد أنواع العقوبة، التي قد تصل إلى الاعدام؛ لحماية الدولة, فما بالك بحماية جناب الدين من التلاعُب به هل هو أولى بذلك وأحرى؟
 
وقد طبَّق النبي صلى الله عليه وسلم حد الردة على العرنيين، والصحابة من بعده طبَّقوا حد الردة في أكثر مِن واقعة يطول المقام بذكرها.
 
وقد أجمع العلماء على قتل المرتد والمرتدة إلا خلاف عن الحنفية في المرتدة, لكن قتله إلى الإمام أو نائبه، ولا يجوز ذلك لآحاد المسلمين; لأنه افتآت على حق الإمام الذي له إقامة الحدود؛ قال ابن قدامة في المغني: "وأجمع أهل العلم على وجوب قتل الـمُرتَد، ورُوِيَ ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد وغيرهم، ولم ينكر ذلك؛ فكان إجماعًا".
 
ثم أجمع جمهور العلماء على وجوب استتابة المرتد، ومن العلماء من قال على الاستحباب، ومنهم من وقَّتَها بثلاثة أيام، ومنهم من قال يُستتاب ويُؤخَّر من تُرجَى توبته.
 
قال النووي في شرح مسلم عن قتل المرتد: "وقد أجمعوا على قتله، لكن اختلفوا في استتابته، هل هي واجبة أم مستحبة، وفي قدرها وفي قبول توبته، وفي أن المرأة كالرجل في ذلك أم لا؛ فقال مالك والشافعي وأحمد والجمهور من السلف والخلف: يُستتاب، ونقل ابن القصار المالكي إجماع الصحابة عليه، وقال طاوس والحسن والماجشون المالكي وأبو يوسف وأهل الظاهر: لا يُستتاب، ولو تاب نفعته توبته عند الله تعالى ولا يسقط قتله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من بدَّل دينه فاقتلوه)، وقال عطاء: إن كان ولدًا مسلمًا لم يُستتَب، وإن كان ولدًا كافرًا فأسلم ثُم ارتد يُستتاب، واختلفوا في أن الاستتابة واجبة أم مستحبة، والأصحُّ عند الشافعي وأصحابه أنها واجبة وأنها في الحال؛ وله قول أنها ثلاثة أيام، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق، وعن علي أيضًا أنه يُستتاب شهرًا، قال الجمهور: والمرأة كالرجل في أنها تُقتل إذا لم تتب، ولا يجوز استرقاقها. هذا مذهب الشافعي ومالك والجمهور، وقال أبو حنيفة وطائفة: تُسجن المرأة ولا تُقتل، وعن الحسن وقتادة أنها تُسترَقُّ".