صفات الداعية الناجح 3

  • 165

إن مِن أبرز سمات الداعية الناجح طلب العلم؛ فالعلم أولًا قبل العمل، قال تعالى: ?فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَـهَ إِلَّا اللَّـهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ?, فالداعية يحتاج إلى العلم في دعوته أكثر مِن حاجة الناس للطعام والشراب؛ فقد مدح الله عز وجل أهل العلم، وبيَّن فضلهم، وأثنى عليهم، قال سبحانه: ?قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ? (الزمر: 9)، ?يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ? (المجادلة: 11)،وقال أيضًا: ?إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ? (فاطر: 28)، وبيَّن سبحانه أن العلم نور لحامله والعامل به في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ?أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ? (الأنعام: 122)، وقال أيضًا: ?وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا? (الشورى: 52)؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن يُرِد الله به خيرًا يُفقهه في الدين»، وقال أيضًا: «مثل ما بعثني الله به مِن الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضًا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء؛ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادِبُ أمسكت الماء؛ فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان: لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً فذلك مثل مَن فَقهَ في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فَعَلِمَ وعَلَّمَ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلت به».
 
وهذا يدل على أهمية العلم للدعاة إلى الله تعالى، وأنه مِن أهم المهمات، وأعظم الواجبات؛ ليدعوا الناس على بصيرة؛ ولهذا قال سبحانه: ?قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَاْ مِنَ الْـمُشْرِكِينَ? (يوسف: 108).
 
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد، هذه الدعوة التي أدعو إليها, والطريقة التي أنا عليها مِن الدعاء إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان، والانتهاء إلى طاعته، وترك معصيته، (سبيلي) وطريقتي ودعوتي،  (أدعو إلى الله) وحده لا شريك له، (على بصيرة) بذلك, ويقين عليم منِّي به أنا، ويدعو إليه على بصيرة أيضًا مَن اتبعني وصدقني وآمن بي، (وسبحان الله)، يقول له تعالى ذكره: وقل: تنـزيهًا لله، وتعظيمًا له مِن أن يكون له شريك في ملكه، أو معبود سواه في سلطانه: (وما أنا مِن المشركين)، يقول: وأنا بريءٌ مِن أهل الشرك به, لست منهم ولا هم منِّي, وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل).
 
والبصيرة في الدعوة المذكورة في الآية تعني:
 
أولًا: أن يكون الداعي إلى الله على بصيرة بما يدعو عالمـًا به.
 
ثانيًا: وعلى بصيرة بحال المدعوين «إنك تأتي قومًا أهل كتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أجابوا؛ فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات، فإن هم أطاعوا ...». الحديث.
 
وثالثًا: البصيرة بوسائل الدعوة وكيفيتها: والمقصود ليس التفصيل في معنى البصيرة؛ فهذا له موضع آخر، ولكن بيان مدى الارتباط بين طلب العلم والدعوة إلى الله في حياة الداعية، وانه لا قوام للدعوة إلا بالعلم.
 
يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: «إنما أخشى مِن ربي يوم القيامة أن يدعوني على رءوس الخلائق فيقول لي: يا عويمر، فأقول: لبيك يا رب، فيقول: ما عملت فيما علمت؟!».
 
وذكر الخطيب البغدادي بسنده قال: كان إسماعيل بن إبراهيم بن جارية يقول: «كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به». وهذا معنى آخر لايقل أهمية عن سابقه وهو العمل بالعلم، وهناك أمثلة فذة في تاريخ المسلمين توضح هذا المعنى بطريقة عملية؛ فإن المروذي يقول: قال الإمام أحمد: ما كتبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا إلا وعملت به، (في مسند الإمام أحمد حوالي 40 ألف حديث) حتى مرَّ بي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجَّام دينارًا، فأعطيت الحجام دينارًا حين احتجمت، بل إنه -رحمه الله- استأذن زوجته في أن يتخذ أمَةً فأذنت له، فاشترى جارية بثمن يسير وسماها ريحانة؛ استنانًا بالرسول صلى الله عليه وسلم.
 
وهذا الحسن البصري رحمه الله، جاءه الرقيق يومًا وطلبوا منه أن يكلم الناس في خطبة الجمعة عن فضل عتق الرقاب؛ إذ كان الناس وقتئذٍ يَقبلون منه ما لا يقبلون مِن العلماء، فقام الحسن في الجمعة الأولى فلم يتكلم في هذا، وفي الثانية لم يتكلم أيضًا، وفي الجمعة الثالثة تكلم فأحسن في فضل عتق الرقاب، وكان أن خرج الناس مِن المسجد فأعتقوا مَن كان عندهم مِن الرقيق.
 
وحينها جاء الرقيق المحررون لوجه الله تعالى يشكرون الحسن ويقولون: أبطأت علينا ثلاث جمع، فقال: لقد انتظرت حتى رزقني الله مالًا، فاشتريت عبدًا وأعتقته لوجه الله تعالى؛ حتى لا آمر الناس بما لم أفعل !!
 
وقال عبد الرحمن بن مهدي: سمعت سفيان يقول: «ما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قَط إلا عملت به، ولو مرةً واحدةً»، ويقول أبو رافع: «صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ، فَقَرَأَ ?إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ? فَسَجَدَ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ؟ قَالَ: سَجَدْتُ بِهَا خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم، فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ».
 
كل هذه أمثلة وغيرها كثير تدلل على المعنى الذى سقناه مِن أن الداعية لا يجد بركة العلم إلا بالعمل به في خاصة نفسه وفيما يدعو إليه الناس.