اللغة العربية .. ومعالم النهضة السلفية (1)

  • 162

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن اللغة -أي لغة كانت- لها ثلاث مهام مهمة:
(أ) هي ركنُ التفكير؛ فاللغة فكر ناطق، والتفكير لغة صامتة.
(ب) وهي أولى وسائل التواصل والتفاهم والتخاطب، وبثِّ المشاعر والأحاسيس.
 
ولذلك كانت أهمية اللغة في حياة الأمم، فإنها الأداة التي تحمل الأفكار، وتنقل المفاهيم، فتقيم بذلك روابط الاتصال بين أبناء الأمة الواحدة، وبها يكون التقارب والتشابه والانسجام بينهم.
 
(ج) وهي وعاءُ المعرفة؛ فهي الترسانة الثقافية التي تبني الأمة وتحمي كيانها.
 
هذه أهم مهام اللغة، أيا ما كانت هذه اللغة، وأيا ما كان الناطقون بها، وما لهم من مجد وحضارة وتاريخ، أيا ما كان.
 
أما اللغة العربية فلقد تبوأت من هذه الوظائف أعلى المراتب، ولها منها أعظم الحظ والنصيب، وتزيد عليها أنها لغة أعظم كتب الله جل جلاله المنزّلة، وهي محفوظة بحفظ الله له، فهي لغة مقدسة؛ لغة وحي ودين، لغة عبادات وشعائر، هي لغة مأجورٌ مَن يتعلمها، مُثاب من يعلمها.
 
اللغة العربية شعار الإسلام وتعلمها من الدين:
وتزداد أهمية الاعتناء باللغة العربية فوق هذه الوظائف الثلاث أنها جزء من ديننا، وهي شعار الإسلام، ولا يمكن أن يقوم الإسلام إلا بها.
 
فـ«مَن أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب، ومَن أحب العربية عُني بها وثابر عليها، وصرف همته إليها» [فقه اللغة، الثعالي، ص 3]
 
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (إن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون". [اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 519)، وانظره في (1/ 526)]
 
ويقول أيضًا رحمه الله: (واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل، والخلق، والدين تأثيرًا قويًّا بينًا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق. وأيضا فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وهذا معنى ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عيسى بن يونس عن ثور عن عمر بن زيد قال: كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "أما بعد: فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن، فإنه عربي". وفي حديث آخر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "تعلموا العربية فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم". [المصنف، ابن أبي شيبة، (13/165 رقم 26164)]. وهذا الذي أمر به عمر رضي الله عنه من فقه العربية وفقه الشريعة، يجمع ما يحتاج إليه؛ لأن الدين فيه أقوال وأعمال، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه السنة هو فقه أعماله). [اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 527 ، 528) باختصار]
 
تعلم وتعليم العربية من منهج السلف الصالحين:
وقد ورد عن فاروق الأمة من ذلك شيء كثير، غير ما رواه شيخ الإسلام، فالإقبال على العربية وإتقان فنونها تعلمًا وتعليمًا منهج الصحابة الأولين والسلف الصالحين، رضي الله عنهم أجمعين. فقد قال عمر الفاروق رضي لله عنه: "تَعلّموا العربيّة وَعَلِّموها النّاسَ". رواه البيهقي وابن الأنباري في الإيضاح من قول عمر بن الخطاب، وقد رواه ابن أبي شيبة عن أبي بن كعب موقوفًا. وقال رضي الله عنه: "تعلموا إعراب القرآن كما تتعلمون حفظه". [فضائل القرآن، أبو عبيد 23، إيضاح الوقف، أبو بكر الأنباري، 1/35]. وقال رضي الله عنه: "تعلموا العربية فإنها تثبت العقل وتزيد في المروءة". [شعب الإيمان (1556، 3/ 210)]. وقال عمر بن الخطاب: "تعلموا الفرائض واللحن والسنن كما تعلمون القرآن". [سنن الدارمي 2/341، وأخرجه أيضا: أبو عبيد: فضائل القرآن 23، إيضاح الوقف 1/15، والأضداد ص239. كلاهما لأبي بكر الأنباري].
 
وحدَّث يزيد بن هارون بهذا الحديث، فقيل له: ما اللحن؟ قال: النحو. [إيضاح الوقف 1/15 ، والأضداد ص240]. وعن أبي عثمان النهدي قال: جاءنا كتاب عمر، وهم بأذربيجان، وكان فيه أن تعلموا العربية. [طبقات النحويين واللغويين ص12، التمهيد، العطار 99]. وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري، أن مُرْ مَن قِبَلك بتعلم العربية. [إيضاح الوقف 1/31، الإيضاح، الأندرابي61]. وسئل الحسن البصري عن تعلم العربية، أو عن المصحف ينقط بالعربية، فقال للسائل: أوَما بلغك كتاب عمر بن الخطاب أن تعلموا العربية؟. [المصاحف، ابن أبي داود ص142، وأبو بكر الأنباري: إيضاح الوقف 1/49].
 
وهي عند الفاروق كالرمي وفنون القتال، فيروي الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: مر عمر بن الخطاب بقوم قد رموا رِشْقًا، فقال: بئس ما رميتم. فقالوا: يا أمير المؤمنين إنا قوم (متعلمين). فقال عمر: والله لذنبكم في لحنكم أشد عليّ من ذنبكم في رميكم، سمعت رسول الله ? يقول: "رحم الله رجلًا أصلح من لسانه". [شعب الإيمان (1557، 3/ 210)، الجامع لأخلاق الراوي، الخطيب البغدادي 2/81]، فتعلم اللغة العربية من أسباب الرحمة أيضًا.
 
ولعل محدث الأمة وملهمها رضي الله عنه كان ملهمًا في جمعه بين تعلم اللغة والرمي كما سبق، وكذلك جمعه بين تعلم فنون القتال وما يعين على القيادة والرجولة في قوله الشهير: "علّموا أبناءكم السباحة والرماية وركوب الخيل، وروّوهم ما جمل من الشعر. [الكامل في اللغة والأدب (1/ 211)]. فتعلم اللغة العربية من المروءة والرجولة كما يظهر من قول عمر، وهو يزيد العقل كما سبق من قول شيخ الإسلام، لكنه يظهر لي أمر آخر من اقترانها بأدوات الجهاد والقتال في قول عمر، أن تعلم اللغة العربية إحدى أدوات جهاد البيان والدفاع عن الإسلام.
 
وكما سبق ليس هذا منهج الفاروق المحدث وحده بل هو منهج الصحابة رضي الله عنهم، وقالت عائشة رضي الله عنها: (روُّوا أولادكم الشعر، تعذب ألسنتهم). وقال المقداد بن الأسود: (ما كنتُ أعلم أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بشعر ولا فريضة -علم المواريث- من عائشة رضي الله عنها). وكان عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- من أروى الناس للشعر، ونقل عن أبي ذر أنه قال: (تعلموا العربية في القرآن كما تتعلمون حفظه)[ إيضاح الوقف 1/23، التمهيد ص207].
 
ويروى أن زيادًا بعث بولده إلى معاوية -رضي الله عنه- فكاشفه عن فنون من العلم، فوجده عالما بكل ما سأل عنه، ثم استنشده الشعر فقال: لم أرْوِ منه شيئًا، فكتب معاوية إلى زياد يقول له: ما منعك أن ترويه الشعر؟ فوالله إن كان العاقّ ليرويه فيبرّ، وإن كان البخيل ليرويه فيسخو، وإن كان الجبان ليرويه فيقاتل.
 
إن في حث الرسول صلى الله عليه وسلم على تعليم وتعلم القرآن إشارة وإرشاد لتعلم وتعليم اللغة العربيّة، قال صلى الله عليه وسلم: "خَيْركُم مَن تَعلّم القُرآنَ وعَلَّمهُ" متفق عليه. فما نشأت علوم العربية بأسرها إلا لخدمة القرآن العظيم ومن أجله، كما قيل: (لولا القرآن ما كانت عربية).