الأغلال المنسية

  • 163


كثيرة هي الأغلال في حياتنا..

لكن دعني أحدثك عن نوع من الأغلال لا نكاد نذكره إلا قليلًا، وهو مع ذلك شديد الخطر عظيم البأس!

تخيل أخي الكريم لو أنك عُرضَت عليك وظيفة مرموقة، ذات وجاهة ومنزلة، وراتب حسن، لكن لقبول هذه الوظيفة شرط واحد:

هذا الشرط هو أن تأتي أمام الملأ فُتقيَّد من يديك ورجليك، ثم يقف رجل على رأسك محذرًا أنك إن أسأت فلك عقاب أليم! ثم يفك قيدك ويتركك تنطلق في وظيفتك.

أكنت تقبل؟!

فماذا لو كانت تلك الوظيفة بدون راتب، بل ربما ستبذل من مالك لأجلها؟

أكنت تقبل؟!

فهب أن الذي وقف على رأسك محذرًا قال لك: احذر فقلما ينجو من ذلك أحد!!

بالله عليك لو وضعت في هذا الموقف ماذا أنت فاعل؟!

أراك تقول: وهل من عاقل يقبل؟!

لكن دعني يا صديقي أقول لك: للأسف: كثير منا يفعل ذلك. لا أقول يقبل، بل يطلب، بل يقاتل!

أي والله.

تسألني كيف؟!

دعني إذن أبين لك:

كم من أعمال الدنيا كنتَ حريصًا عليها، وحريصًا على أن تكون في الصدارة منها، وهذه الأعمال تتعلق بقضاء مصالح المسلمين.

أيها القارئ:

سواء أكنت معلمًا، أو قاضيًا، أو عاملًا في مؤسسة، أو ضابطًا في الجيش، أو حارسًا للأمن، أو مديرًا في شركة، أو مسئولًا في مستشفى، أو رئيسًا لموظفين، أو مشرفًا على عمال، أو عضوًا في مجلس إدارة شركة أو مؤسسة أو مكتبة عامة أو برج أو مسجد، أو كنت تتولى مهمة تتعلق بمصالح المسلمين كبيع أو شراء أو ترخيص أو كتابة -أو أي أمر آخر يتعلق بمصلحة عشرة أنفس فقط من البشر- فإنك أحد من أوجه لهم حديثي:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة ويده مغلولة إلى عنقه».

وقال أيضًا: «ما من أمير عشرة إلا وهو يؤتى به يوم القيامة مغلولاً حتى يفكه العدل أو يوبقه الجور».

حدثني بالله عليك: أهذا أهون أم المثال الذي ضربته لك؟!

أن تتولى مسئولية عشرة أنفس فقط يجعلك عرضة لهذا الموقف. أظنك تسألني: إذن نجلس في بيوتنا ولا نعمل؟

أقول لك: لا! ولكن اعدل، واستشعر مقدار المسئولية التي أُلقيت على عاتقك، والبلاءَ الذي تعرضت له. فخذ أُهبتك، وابذل ما في وسعك وإلا فالنار النار.

واحذر

فإن النبي تعرض لكل من وقف موقفًا يتحمل فيه مسئولية عامة للمسلمين فقال: «اللهم من ولي من أمر المسلمين شيئًا فيسر عليهم فيسر عليه، ومن ولي من أمر المسلمين شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه».

فهل يسَّرت على المسلمين أو عسَّرت عليهم؟ هل كنت ناصحًا أو غاشًا لهم؟

وأشد منه هؤلاء الذين يتبؤون مناصب شرعية، كمن يتولى مسئولية تعليم الناس الدين، أو من يتولى أمر مؤسسة خيرية أو دعوية أو علمية .. من يخطب الجمع .. من يدرس ويوجه .. من يتولى مسئولية إقامة الواجبات الكفائية؛ من كفالة لليتيم، وإغاثة للملهوف، وإعانة الفقير، أو جمع الصدقات، أو تفريق الزكوات .. كل هؤلاء يقعون تحت طائلة هذا الحديث.

بل إن الشرع الحنيف يدلنا على أن الأعمال التي فيها وجاهة -وتوليها يحمل بين طياته تزكية للنفس- لا ينبغي للمرء أن يطلبها، بل إن من يطلبها ينبغي ألا يجاب إلى طلبه، فعن أَبي موسى رضي الله عنه قال: دخلتُ على رسول الله أَنَا ورجُلانِ من بَني عمِّي فقال أحد الرجلين: يَا رَسُولَ الله  أمِّرنا على بَعضِ مَا وَلَّاكَ الله. وقالَ الآخر مثلَ ذلكَ. فَقالَ النَّبِيُّ : "إنا وَالله لَا نُولِّي علَى هذا العملِ أحدًا سأله ولا أحدًا حرص عليه". ولست بصدد بيان الحكم الشرعي في تفاصيل هذه المسألة الآن، لكني أبين لك كيف تعامل النبي مع الصحابيين الَّذين أتيا يسألانه أن يوليهما مسئولية من مسئوليات العمل لدين الله.

اقرأ في سير السلف الصالحين: اقرأ كيف كانوا يهربون من تولي القضاء، ويفزعون منه -وهم له بأهل- ويفضلون السجن عليه، واقرأ كيف كانوا يهابون الفتيا ويشفقون منها، وكيف كانوا يفرون من المناصب والولايات؟ ثم انظر في واقعنا اليوم بين إخوانك الذين يحرصون على العمل لنصرة دين الله فستجد «عكس» هذا الذي قرأته تمامًا! -إلا من رحم ربي، وقليل ما هم-، وستكون كمن كان في حُلُمٍ جميلٍ ثم أفاق فوجد نفسه في واقعٍ مرٍ أليم.

لقد كان سلفنا الصالح يقدرون الأمور حق قدرها، ونحن اليوم بين جاهلٍ متسرع، وعارفٍ متساهل، وقل من يحفظ لأمر الله حقه، ويقدر الله حق قدره، فيعظم حرمات ربه، ويبذل جهده في فكاك رقبته، فيكون حريصًا على نجاته. أسأل الله أن يجعلني وإياك -أيها القارئ- منهم، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به.