مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (38) آيات من القرآن في ذم القسوة (16)

  • 244

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قال الله -عز وجل-: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر:22-23).

قال ابن كثير -رحمه الله- في قوله -تعالى-: "(أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) أي: هل يستوي هذا ومَن هو قاسي القلب بعيد من الحق؟! كقوله -عز وجل-: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوْرًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) (الأنعام:122)؛ ولهذا قال -تعالى-: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) أي: فلا تلين عند ذكره، ولا تخشع ولا تعي ولا تفهم، (أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).

(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ): هذا مدح من الله -عز وجل- لكتابه القرآن العظيم المنزل على رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -تعالى-: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ)، قال مجاهد: يعني القرآنُ كله متشابهٌ مثاني.

وقال قتادة: الآية تشبه الآية، والحرف يشبه الحرف.

وقال الضحاك: (مَثَانِيَ): ترديد القول ليفهموا عن ربهم -عز وجل-.

وقال عكرمة، والحسن: ثنَّى الله فيه القضاء، زاد الحسن: تكون السورة فيها آية، وفي السورة الأخرى آية تشبهها.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (مَثَانِيَ): مُرَدَّدٌ، رُدِّدَ موسى في القرآن، وصالح وهود والأنبياء -عليهم السلام- في أمكنةٍ كثيرةٍ.

وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (مَثَانِيَ)، قال: القرآن يشبه بعضه بعضًا، ويرد بعضه على بعض.

وقال بعض العلماء ويُروى عن سفيان بن عيينة: معنى قوله: (مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ) أن سياقات القرآن تارة تكون في معنى واحد؛ فهذا مِن المتشابه، وتارة تكون بذكر الشيء وضده، كذكر المؤمنين ثم الكافرين، وكصفة الجنة ثم صفة النار، وما أشبه هذا؛ فهذا من المثاني، كقوله -تعالى-: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (الانفطار:13-14)، وكقوله -عز وجل-: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) (المطففين:7)، إلى أن قال: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) (المطففين:18)، (هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) (ص:49)، إلى أن قال: (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) (ص:55)، ونحو هذا مِن السياقات؛ فهذا كله مِن المثاني، أي: في معنيين اثنين.

وأما إذا كان السياق كله في معنى واحد يشبه بعضه بعضًا، فهو المتشابه وليس هذا من المتشابه المذكور في قوله -تعالى-: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) (آل عمران: 7)، ذاك معنى آخر.

وقوله -تعالى-: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ): أي: هذه صفة الأبرار عند سماع كلام الجبار المهيمن العزيز الغفار؛ لما يفهمون منه مِن الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف، (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه، فهم مخالفون لغيرهم من الفجار مِن وجوهٍ:

أحدها: أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات، وسماع أولئك نغمات الأبيات، من أصوات القينات.

الثاني: أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خرُّوا سُجدًا وبكيًّا بأدبٍ وخشيةٍ، ورجاءٍ ومحبةٍ، وفهمٍ وعلمٍ، كما قال -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال:2-4)، وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) (الفرقان:73)، أي: لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها؛ بل مُصغين إليها، فاهمين بصيرين بمعانيها؛ فلهذا إنما يعملون بها، ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم.

الثالث: أنهم يلزمون الأدب عند سماعها، كما كان الصحابة -رضي الله عنهم- عند سماعهم كلام الله من تلاوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تقشعر جلودهم، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله، لم يكونوا يتصارخون ولا يتكلفون ما ليس فيهم؛ بل عندهم مِن الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك؛ ولهذا فازوا بالمدح من الرب الأعلى في الدنيا والآخرة.

قال عبد الرزاق: حدثنا معمر قال: تلا قتادة -رحمه الله-: ((تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) قال: هذا نعت أولياء الله، نعتهم الله -عز وجل- بأن تقشعر جلودهم، وتبكي أعينهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم؛ إنما هذا في أهل البدع، وهذا من الشيطان.

وقال السدي: (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) أي: إلى وعد الله. وقوله: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) أي: هذه صفة مَن هداه الله، ومَن كان على خلاف ذلك فهو ممَن أضله الله، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الرعد:33)".

قال ابن جرير -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).

يقول -تعالى ذكره-: أفمَن فسح الله قلبه لمعرفته، والإقرار بوحدانيته، والإذعان لربوبيته، والخضوع لطاعته. (فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) يقول: فهو على بصيرة مما هو عليه ويقين، بتنوير الحق في قلبه فهو لذلك لأمر الله متبع، وعما نهاه عنه مُنتهٍ فيما يرضيه، كمَن أقسى الله قلبه، وأخلاه من ذكره، وضيقه عن استماع الحق، واتباع الهدى، والعمل بالصواب؟ وترك ذكر الذي أقسى الله قلبه، وجواب الاستفهام اجتزاء بمعرفة السامعين المراد مِن الكلام؛ إذ ذكر أحد الصنفين وجعل مكان ذكر الصنف الآخر الخبر عنه بقوله: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ).

عن قتادة، قوله: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ)، يعني: كتاب الله، هو المؤمن به يأخذ، وإليه ينتهي.

عن السديّ، قوله: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) قال: وسَّع صدره للإسلام، والنور: الهدى.

وعن مجاهد: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) قال: ليس المنشرح صدره مثل القاسي قلبه.

وقوله: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ): يقول -تعالى- ذكره: فويل للذين جفت قلوبهم ونأت عن ذكر الله وأعرضت، يعني عن القرآن الذي أنـزله تعالى ذكره، مذكرًا به عباده، فلم يؤمن به، ولم يصدّق بما فيه. وقيل: (مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) والمعنى: عن ذكر الله، فوضعت "مِنْ" مكان "عَنْ"، كما يقال في الكلام: أتخمت مِن طعام أكلته، وعن طعام أكلته، بمعنى واحد.

(أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء القاسية قلوبهم من ذكر الله في ضلال مبين، لمَن تأمله وتدبره يفهم أنه في ضلال عن الحق جائر".

وللتفسير بقية، ولنا مع الآيات وقفات -إن شاء الله-.