عاجل

الشيخ ابن عثيمين وجانب من أخلاق المعلِّمين والمتعلِّمين

  • 53

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فمَن كان يطالع تراث الشيخ ابن عثيمين ويدرس في كتبه، ويسمع شروحه، سيسمع من الشيخ قوله: "هذه المسألة تحتاج إلى بحث، سنراجع هذه المسألة / لا أدري هذا الأثر فيه نظر / الموضوع تبحثه لجنة من العلماء وننتظر رأيهم / هذه المسألة لا أبت فيها حتى أراجع وأتأمل".

وكذلك مسائل عدة توقف فيها قد تبلغ مائة مسألة فيما سجل ونشر، وأخرى رجع إلى رأي غيره؛ هذا مع رسوخه وتبحره وكثرة شروحه وسعة اطلاعه -رحمه الله- وتنوع معارفه؛ مما يدل على أنه كان صاحب روية وتأن وتثبت، موصوف بتقدير العلم وطلابه، والتواضع، وعدم الخوف من قول الناس: إنه يجهل مسائل، وعدم التمسك بالرأي إذا تبين خطأه، والورع والتجرد من مراعاة نظر الناس، والخوف من التكلم في شيء من الدين بغير علم، وتعظيم حرمته.

وهذه الآداب والمعاني من أعظم أسباب التوفيق والقبول، ومن أمارات الرسوخ وسلامة النفس، ولعل ذلك مِن أسباب بقاء علم الشيخ وتسخير الله جهود طوائف لنشر آثاره وشروحه والقبول الذي وضع في مؤلفاته وفتاويه.  

وقد ذكرتُ الشيخ ابن عثيمين من باب ذكر المثال لا للحصر، ولمكانة الشيخ في نفوس عامة أهل العلم وطلابه؛ وإلا فهذا دأب مشايخ وعلماء السنة الربانين في مختلف الأزمان.

وهذه الأخلاق تكاد أن لا ترى في صغار الطلاب ممَّن غرهم كثرة المراجع الميسرة والمطبوعات الفاخرة، وسهولة الاطلاع على الفتاوى في الموسوعات والمواقع الإلكترونية ومنصات الإفتاء بحيث تجد الواحد منا ربما لا يسمع منه مرة: لا أدري!

ظنا أن القول الصحيح والرأي السديد والفتوى المحققة يكفي لهم توفر المعلومات، وسهولة البحث بين المواقع، وهيهات! فوجود المراجع والمعلومات شيء، وتحرير المسائل والقدرة على الترجيح المبني على أسس علمية وأدوات اجتهادية معتمدة، وحسن تنزيل النصوص على الوقائع أشياء أُخَر أكبر وأهم.  

هذا مع ضعف النفوس والرغبة في الظهور والعلو التي تؤز الإنسان أزًّا لأن يفتي ويرجح ويقطع في المسائل، ويتكلم فيما كان يجمع له كبار الفقهاء، ويتناظر فيه أولو الألباب؛ ليُتبين فيه الحق والصواب،

ثم إن الواحد منا يستشرف الأسئلة ويبدي من نفسه استعدادًا للإجابة والتوقيع عن ربِّ العالمين، وهو لم يحصل أغلب أدوات الاجتهاد، ولا من مؤهلات الإفتاء شيئًا إلا مقدرة لحظية محدودة على الوصول لمظان المسائل مع تحصيل نتف متفرقة من مبادئ العلوم وإجازات في بعض المتون!

ومع ذلك تجد الجرأة والعجلة والإقدام كأننا في مسابقة مَن سيفوز بالمركز الأول في سرعة الإجابة على الأسئلة، وكثرة الفتاوى التي أمضاها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فحري بمَن علم حرمة العلم، وعاقبة القول على الله وفي دينه بغير بصيرة ولا هدى، وعظم الشعائر أن يلزم هدي العلماء الربانين في ذلك؛ وإلا أورد نفسه المهالك، فإن في "لا أدري" جنة لا تغيب إلا عن مخذول!

 وعلى كل مَن جعله الله في مقام تعليم أن يورث هذه المعاني والمنازل تحققًا وتلقينًا، قبل أن يشرح لطلابه الكتب كما كان يربي السلف طلابهم عليها ويحذرونهم من مغبة الكبر والعجلة في الإجابة عن أسئلة العلم؛ أصولًا وفروعًا.

قال مالك -رحمه الله-: "سمعت محمد بن عجلان يقول: إذا أخطأ العالم (لا أدري) أصيبت مقاتله".

وذكر عن علي -رضي الله عنه- أنه خرج عليهم وهو يقول: "ما أبردها على الكبد، ما أبردها على الكبد! فقيل له: وما ذاك؟ قال: أن تقول للشيء لا تعلمه: الله أعلم".

والنصوص في ذلك عن السلف تنتظم في مجلد وأكثر؛ لكثرة حرصهم على التأدب بهذه الآداب، والله ولي التوفيق.