عاجل

بداية جديدة

  • 50

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فلا زلتُ أذكر تلك الوصية التي أوصاني بها أحد مشايخي الأفاضل قبل مدة، حين قال لي: إذا بلغت الأربعين، فجهز ملفاتك للقاء رب العالمين!

فيا لها من وصيةٍ ثمينة! فكم من الملفات المبعثرة في حياتنا تحتاج إلى مراجعة وترتيب! وكم من المظالم المنسيَّة تحتاج إلى إعادة نظر وتدقيق! ليس بعد الأربعين فحسب، ولكن في كل وقت وحين، قبل أن نفاجأ بها بين يدي رب العالمين، (‌يَوْمَ ‌يَبْعَثُهُمُ ‌اللَّهُ ‌جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المجادلة:6).

ما أحوجنا بعد كلِّ مرحلة نقطعها من حياتنا أن نحاسب أنفسنا، وأن ننظر فيما أصابنا من غُنمٍ أو غُرْم، وأن نرسل نظرات ناقدة في جوانب هذه النفس؛ لنتعرف عيوبها وآفاتها، ونتعاهد شؤونها لنرى ما عراها من اضطراب فنزيله، وما لحقها من إثم فننفيه!

فالعاقل هو مَن يكون له في كل يوم ساعة يحاسب فيها نفسه، كما يحاسب الشريك شريكه في شئون الدنيا؛ فكيف لا يحاسب الإنسان نفسه في سعادة أو شقاوة أبدية؟!

قال ميمون بن مهران -رحمه الله-: "لا يكون العبد من المتقين، حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه".

إننا أحوج الخلائق إلى التنقيب في أرجاء حياتنا، وتعهد أنفسنا بما يصونها من العلل والتفكك، فقلّما نبقى متماسكين ثابتين مع حِدَّة الاحتكاك بصنوف الشهوات، وضروب المغريات، وتتابع المحن والأزمات.

ما أحوجنا إلى بداية جديدة نجدد فيها إيماننا، ونعيد تنظيم حياتنا، ونجتهد في عبادتنا لله -عز وجل-، فنستأنف عملًا أكمل، وعهدًا جديدًا شعاره: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنَّه لا يغفر الذنوب إلا أنت".

بداية يعاد فيها ترميم القلب، وإعمار الروح، وتزكية النفس، وتفتيت رواسب الذنوب، وإسراع الخطى إلى الله -سبحانه وتعالى- والقرب منه، راجين رحمته، ومعلنين توبتنا وأوبتنا.

إنَّ نداء الحق يهتف بنا في كل ليلةٍ لنُرمم تلك النفوس المنكسرة، ونصلح ما فسد منها؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (‌يَنْزِلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ‌ثُلُثُ ‌اللَّيْلِ الْآخِرُ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ) (متفق عليه).