فن التغافل

  • 63

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فلا تزال رياح التحقيق، والتدقيق، واللوم، وإلقاء التهم، تعصف بالعلاقات الاجتماعية، وتهدم جسور الحب بين الناس على أقل الأسباب، تارة تكون عبارة عن أوهام وأفكار ظنية، وتارة تكون بسبب أفعال يسيرة، كمن لم يبادر بالسلام، أو تأخر عن موعد، أو زوجة أخطأت في التعبير مع زوجها، أو خلل في إعداد الطعام، أو كلمات جارحة تؤدي أحيانًا إلى الإحباط، وزرع اليأس، فيضطر أن يواجه هذا بالحرص على الرد والانتقام والجدال، الذي يسبب في النهاية إلى نتائج تدمر نسيج الترابط، وتقطع الأمل في المحبة والتواصل.

من هنا نرغب في صفة احترازية فنية، يراد بها تجاوز المواقف، أو المراحل العابرة، وهي صفة (التغافل)، وذلك بغض الطرف عن بعض أخطاء الآخرين، والتغافل عن ذكر بعض المساوئ على سبيل الترفق بالمخطئ، وعدم التسبب في مزيد من إحراجه، وتخجيله، كي لا تضعف ثقته بنفسه، أو يتسلل إليه شعور بالإحباط، وتجنبا لإصابة العلاقات بين الناس بالتصدع، أو الوهن.

ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة عندما أسر إلى أم المؤمنين حفصة -رضي الله عنها- حديثًا ثم أخبرت به أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، هنا أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ببعضه، ولم يخبر بالآخر تكرمًا منه وحكمة، وحرصًا منه على دوام الألفة، قال -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌أَسَرَّ ‌النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) (التحريم: 3)، وقال -تعالى- حاكيًا عن تغافل يوسف وتجاهله لفعل إخوته حين قالوا عنه: إنه سرق، (‌قَالُوا ‌إِنْ ‌يَسْرِقْ ‌فَقَدْ ‌سَرَقَ ‌أَخٌ ‌لَهُ ‌مِنْ ‌قَبْلُ ‌فَأَسَرَّهَا ‌يُوسُفُ ‌فِي ‌نَفْسِهِ ‌وَلَمْ ‌يُبْدِهَا ‌لَهُمْ) (يوسف: 77).

جاءت امرأة فسألت حاتم الأصم عن مسألة، وأثناء السؤال صدر منها صوت خجلت منه، فقال حاتم: "ارفعي صوتك"؛ فأوهمها أنه أصم، فَسُرَّت المرأة بذلك، وقالت: إنه لم يسمع الصوت، فلُقِّب بـ (حاتم الأصم) وهو ليس بأصم، بل تظاهر بأنه ضعيف السمع مما أوحى للمرأة بأنه أصم مراعاة لمشاعرها، ولأجل ألا يوقعها في حرج.

الخلاصة: قليل من التغافل كفيل بصنع كوب من السعادة، فضع الكمية التي تناسبك.