هدايات آية النور (2)

  • 57

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمن الأمثال العظيمة التي ضربها الله -تعالى- في القرآن، والذي تكلمنا عنه في المقال الماضي؛ هذا المثل الذي ضربه الله مثالًا لنوره وهداه في قلب عبده المؤمن، وهو قوله -عز وجل-: (‌اللَّهُ ‌نُورُ ‌السَّمَاوَاتِ ‌وَالْأَرْضِ ‌مَثَلُ ‌نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النور: 35).

نوع التشبيه في الآية الكريمة على ما جاء من تفسيرات السلف:

إما أن يكون: تَشْبِيهًا مركبًا، وهو تشبيه جُمْلَةٍ بِجُمْلَةٍ لَا يُقْصَدُ فِيهَا إِلَى تَشْبِيهِ جُزْءٍ بِجُزْءٍ، وَمُقَابَلَةِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، أو تَّشْبِيهِاً مُفَصَّلاً مُقَابَلاً جُزْءًا بِجُزْءٍ. 

أركان التشبيه:

- المشبه: اختلفت فيه عبارات السلف على أربعة أقوال:

الأول: مثل نور المؤمن؛ هكذا قرأها أبي بن كعب -رضي الله عنه-، وقرأ ابن عباس -رضي الله عنهما-: "نور مَن آمن به"، وهذا القول اختاره ابن كثير.

الثاني: مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن؛ قرأ ابن مسعود -رضي الله عنه-: "مثل نوره في قلب المؤمن"، وهو القول الثاني عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، أي: جعل الله -تعالى- نور الإيمان والهداية في قلبه.

الثالث: القرآن. قاله الحسن، وعبد الرحمن بن زيد، أي: نور القرآن في قلب المؤمن، وهذا القول اختاره ابن جرير.

الرابع: نور الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الله -تعالى- قال في وصفه: (‌وَسِرَاجًا ‌مُنِيرًا) (الأحزاب: 46).

- أداة التشبيه: مثل والكاف.

- المشبه به: هو النور المشرق من زجاجة مصباح مُوقَد من زيت جيد صافٍ، موضوع على مشكاة، جمعت نوره، فلم يتفرق، وعكسته فازداد إشراقًا.

- وجه التشبيه:

1- على قول البعض: إنه تشبيه مركب، قال أبو حيان: "أَيْ: مَثَلُ نُورِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ هُدَاهُ، وَإِتْقَانُهُ صَنْعَةَ كُلِّ مَخْلُوقٍ، وَبَرَاهِينُهُ السَّاطِعَةُ عَلَى الْجُمْلَةِ، كَهَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ النُّورِ الَّذِي تَتَّخِذُونَهُ أَنْتُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، الَّتِي هِيَ أَبْلَغُ صِفَاتِ النُّورِ الَّذِي بَيْنَ أَيْدِي النَّاسِ، أَيْ: مَثَلُ نُورِ اللَّهِ فِي الْوُضُوحِ كَهَذَا الَّذِي هُوَ مُنْتَهَاكُمْ أَيُّهَا الْبَشَرُ" (انتهى من تفسيره).

2- وعلى القول الآخر أنه تشبيه مفصل، قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "فأما وجه هذا المَثَل ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه شبَّه نور محمد -صلى الله عليه وسلم- بالمصباح النيِّر، فالمشكاة: جوف رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-، والمصباح: النور الذي في قلبه، والزجاجة: قلبه، فهو من شجرة مباركة، وهو إِبراهيم -عليه السلام-، سمّاه شجرة مباركة؛ لأن أكثر الأنبياء من صلبه. (لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ) لا يهودي ولا نصراني، يكاد محمد -صلى الله عليه وسلّم- يتبيَّن للناس أنه نبيٌّ ولو لم يتكلَّم.

والثاني: أنه شبّه نور الإِيمان في قلب المؤمن بالمصباح؛ فالمشكاة: قلبه، والمصباح: نور الإِيمان فيه. وقيل: المشكاة: صدره، والمصباح: القرآن والإِيمان اللَّذان في صدره، والزجاجة: قلبه، فكأنه مما فيه من القرآن والإِيمان كوكب مضيء تَوَقَّد من شجرة، وهي الإِخلاص، فمثل الإِخلاص عنده كشجرة لا تصيبها الشمس، فكذلك هذا المؤمن قد احترس من أن تصيبه الفتن، فإن أُعطي شكر، وإِن ابتُلي صبر، وإِن قال صدق، وإِن حكم عدل، فقلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيَه العلم، فاذا جاءه العلم ازداد هدىً على هدىً، كما يكاد هذا الزيت يضيء قبل أن تمسَّه النار، فاذا مسَّته اشتد نُوره، فالمؤمن كلامه نُور، وعمله نُور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إِلى نور يوم القيامة. قال أبو العالية: "مدخله ومخرجه، أي: سره وعلانيته".

والثالث: أنه شبّه القرآن بالمصباح يُستضَاء به ولا ينقص.

 فالزجاجة: قلب المؤمن، والمشكاة: لسانه وفمه، والشجرة المباركة: شجرة الوحي، تكاد حُجج القرآن تتضح وإن لم يقرأ. وقيل: تكادُ حجج الله تضيء لمَن فكَّر فيها وتدبَّرها ولو لم ينزل القرآن.

 (نُورٌ عَلى نُورٍ) أي: القرآن نُور من الله لخلقه، مع ما قد قام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن. (زاد المسير). وكذا ذكر أبو حيان والخازن في تفسيرهما.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.