عاجل

إنما هي أيام ونمضي!

  • 265

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فيتبايَن موقف كثيرٌ من الناس تجاه الحياة الدنيا، فمن مُنكَبٍّ عليها، لاهث وراء ملذاتها وشهواتها، ومن منصرفٍ عنها زاهد فيها، لا يقيم لها وزنًا، ولا يلقي لها بالًا، وهي عنده لا تعدل جناح بعوضة، لقد افترق طريق الدنيا وطريق الآخرة في تفكير هؤلاء وواقعهم، ورأوا أنهم إما أن يختاروا طريق الدنيا فيهملون الآخرة، وإما أن يختاروا طريق الآخرة فيهملون الدنيا، ولا سبيل إلى الجمع بينهما في تصورهم القاصر.

وإنَّ المتأمل في المنهج الإسلامي ونصوص الكتاب والسُنَّة يجد توافقًا وتناسقًا عجيبًا، يجمع بين العمل للدنيا والعمل للآخرة؛ هذا التوافق الذي لا يُفوِّت على الإنسان دنياه لينال آخرته، ولا يُفوِّت عليه آخرته لينال دنياه؛ فالأصل في هذا المنهج أن يلتقي فيه طريق الدنيا وطريق الآخرة، وأن يكون الطريق إلى صلاح الآخرة هو ذاته الطريق إلى صلاح الدنيا.

وهكذا صحح المنهج الإسلامي النظرة إلى الدنيا، ووضع المسلم على الجادة المستقيمة؛ فالدنيا ليست غاية وإنما وسيلة، ولا بد من إعمارها بطاعة الله وعبادته وتوحيده، قال -تعالى-: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا(القصص:77).

وبهذه النظرة المتوازنة انطلق الصحابة -رضوان الله عليهم- في أرض الله -عز وجل-، يعملون ويتكسبون، وينفقون على أنفسهم وعلى أهلهم، يتاجرون، ويزرعون، ويجاهدون في سبيل الله، ويتولون المناصب، والقيادات، ويخالطون الناس، ومع ذلك لم تمثِّل الدنيا شيئًا في أعينهم، فما أسهل أن يبذلوها رخيصةً في سبيل الله!

لمَّا قَدِمَ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى الشام تلقَّاه أبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- وهو أميره على الشام آنذاك-، فمشى معه حتى دخلا منزل أبي عبيدة -رضي الله عنه-، فقلَّب عمر -رضي الله عنه- بصره في بيت أميره، فلم ير فيه شيئًا سوى سيفه، وترسه، ورحله، فقال له عمر -رضي الله عنه-: "أين متاعك؟ قال أبو عبيدة -رضي الله عنه-: إنّما هيّ أيامٌ ونَمْضِي!"، وفي رواية: "هذا يُبلّغنا المقيل".

هكذا كان فهم الصحابة -رضوان الله عليهم- لحقيقة الدنيا، أنها "أيامٌ ونمْضِي عنها"، وأن متاعها زائل، وأنها دار فناء لا دار بقاء، قال -تعالى-: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ(غافر: 39)، وبالرغم من ذلك لم ينعزلوا عنها ويتركوها، وتعاملوا معها بنظرة متوازنة ومميزة؛ فكانت في أيديهم لا في قلوبهم، وهكذا يجب أن تكون الدنيا والآخرة في حسِّ المسلم وفي نفسه، طريقًا واحدًا وحِسبة واحدة.