خطورة صرف آيات الصفات عن مقتضى ظاهرها (1)

  • 67

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد جزمت الأشاعرة بشُعبتيها: (المفوضة والمؤولة)، ومن لفَّ لَفَّهم: أن ظاهر الصفات الخبرية والفعلية غير مراد. فالمفوضة منهم قالوا بأن ظاهر الآيات غير مراد، ولم يُمِرُّوه كما جاء وَفْق لغته العربية المبينة، وفهمه المتبادر للذهن بلا تكييف أو تمثيل، من معنى كلي ذهني يتم به التفرقة بين صفة وصفة؛ مما يحدو بنا إلى التعبد لله بمقتضى هذا المعنى وفق ما جاء في الآيات والأحاديث. بل ذهب مفوضة الأشاعرة إلى أن هذا الظاهر غير مراد؛ لذا أوجبوا تأويله على معنى مخالف لظاهره، لكنهم لم يحددوا هذا المعنى، وفوضوا علمه لله، وكأن الله -بزعمهم!- طلب منا التعبد بمقتضى ما لا يُفْهَم -تعالى الله عن ذلك-. 

أمّا المؤولة منهم - وعلى رأسهم الرازي -: فقد صرفوا اللفظ عن ظاهره، وحددوا معانٍ مجازية للصفات، بناءً على قرينة غير حقيقية. بل هي قرينة متوهمة في عقل هؤلاء الذين ظنوا أن الإثبات يعني تشبيه الخالق بالمخلوق، ونسوا أن الله ليس كمثله شيء، وبما أن ذاته ليست كذواتنا، إذًا صفاته ليست كصفاتنا، ومِن ثَمَّ لسنا بحاجة إلى التأويل المذموم بصرف اللفظ عن ظاهره. وهذه المعاني المجازية عند القوم لا يمكنهم الجزم بصحتها، وهذا ما صرح به الجويني -رحمه الله- لانعدام الدليل الصحيح عليها، كما أنها لو كانت مرادة لورد فيها حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو أثر عن الصحابة -رضي الله عنهم-.

وبذا يكون التأويلُ المذمومُ من هذه الفِرَق مخالفةً صريحةً منهم لما أجمع عليه اللغويون والبلاغيون والمفسرون من شروط التأويل والقول بالمجاز، حيث انعدام القرينة المتحققة وانعدام الدليل، ومثل هذا آذن بشرٍ عظيم؛ إذ يفتح الباب لكل طائفة أن تحرف الآيات على معتقدها، ليقول مَن شاء ما شاء بلا زمام، ويزعم أن هذا هو المراد!    

فتقرير هذه القاعدة السابقة -أعني: الأصل في الكلام الحقيقة، وهي المتبادرة في الذهن، وأن التأويل المقبول لابد فيه من دليل وقرينة متحققة-: ضروري لضمان انضباط التفاهم بين الناس، لما يترتب على إهمالها مِن تعذُّر تفاهمهم، وعدم انضباط معاملاتهم، بل وفسادها؛ إذْ يُفتح الباب لكلّ عابث لأنْ يتنكر لكلِّ الالتزامات التي تفهم من ظاهر كلامه بحجة أنه لم يقصد ظاهرها، وإنما قصد أمرًا آخر، والعيب فيمن لم يفهم، وهكذا يزعم، فلا تنضبط بعد ذلك تعاملات، ولا تثبت التزامات، وتهدر من وراء ذلك الحقوق، وتشيع هنا وهناك فوضى العبث بالألفاظ تحت ستار قرائن وهمية، توهمها أصحابها! كما أن ذلك يكون طريقًا لكلِّ قاصد إلى هدم الشريعة، بأن ينسب إليها كلَّ ما يهواه، ويسقط منها كلَّ ما يخالف هواه، وليس ما يجري على الشاشات من ثلة تزعم البحث الإسلامي والتجديد عنا ببعيد!

ومن هنا اتفق الأئمة من الأصوليين واللغويين والبلاغيين على وجوب العمل بما دلَّ عليه النص والظاهر حتى يقوم دليل التأويل أو التخصيص أو النسخ. 

وللحديث بقية -إن شاء الله- مع أقوال العلماء في ذلك.