مُبينا حال السلف مع الوقت.. "أحمد فريد": كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة لأنه لا يزداد من الدنيا إلا خيرًا

مهما أسرف العبد على نفسه بالمعاصي يمكنه أن يرجع إلى ربه

  • 49
الفتح - الدكتور أحمد فريد، مستشار إدارة الدعوة السلفية

قال الدكتور أحمد فريد، مستشار مجلس إدارة الدعوة السلفية: نعم الله -عز وجل- أكثر مِن أن تحصر، كما قال -تعالى-: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، فالعباد عاجزون عن عد نعم الله -عز وجل- عليهم؛ فضلًا عن أداء شكر هذه النعم، ولذا قال بعض السلف "حق الله أثقل من أن يقوم به العباد، ونعم الله أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصبحوا تائبين، وأمسوا تائبين"، نسأل الله أن يتوب علينا، وأن يغفر لنا.

وأوضح "فريد" -في مقال له بعنوان "نعم الحياة" نشره موقع "أنا السلفي"-: أن النعم الحسية كثيرًا ما يشعر بها العباد، كنعمة الزوجة، والمسكن الطيب، والطعام الطيب، وغير ذلك، ولكن هناك نعم قد لا يشعر العباد بها، كنعمة القرآن مثلًا، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه في آخر الزمان يرفع من السطور والصدور، ولا يبقى في الأرض منه آية، متسائلًا "فكيف يعيش الناس بدون القرآن؟!".

وتابع: مِن هذه النعم التي قد لا يعرف قيمتها كثير من الناس نعمة الحياة، ونعمة العمر والوقت، أننا ما زلنا في وقت المهلة، فمهما أسرف العبد على نفسه بالمعاصي، يمكنه أن يرجع إلى ربه، كما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ؟[الزمر: 53]، فباب التوبة لا يزال مفتوحًا لنا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ) [رواه الترمذي، وحسنه الألباني].


معرفة قدر النعم

وأشار "فريد" إلى أن العبد يعرف قدر النعمة إذا حُرم منها، فمهما كان متمتعًا بالصحة لا يعرف قدر الصحة، فإذا ابتلي بمرض -نسأل الله العافية-، عرف قدر الصحة، ولا يعرف نعمة الحرية مَن لم يبتلَ بالسجن -نسأل الله العافية- أيضًا، وإنما يعرف قدرها مَن اُبتلي بالسجن -نسأل الله العافية-، فهل نعمة الحياة كذلك يعرف قدرها من حرم منها، والله -عز وجل- مِن رحمته بنا سجَّل لنا في كتابة ما يقوله مَن يحرم مِن هذه النعمة عند الموت وعندما يقف أمام النار، وعندما يقف أمام الملك الجبار، وكذلك وهو بين طبقات النيران، حتى نعرف قدر النعمة الحياة، وكيف إنها فرصة للإيمان والعمل الصالح، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99-100].

وأكد أن الحياة نعمة، والعمر نعمة، بل كل لحظة من لحظات العمر نعمة، فساعات الليل والنهار التي تمر بنا نعمة، تمنن الله -عز وجل- بها، فقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ . وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ . وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 32-34]، فسخَّر الله -عز وجل- لنا الليل والنهار من أجل أن نعمرهما بطاعة العزيز الغفار.

وأضاف "فريد": وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]، فكل يوم يعيشه المؤمن فهو غنيمة؛ لأن المؤمن لا يزداد من الدنيا إلا خيرًا، وكل نفس مِن أنفاس عمره فهو جوهرة، يستطيع أن يشتري بها كنزًا لا يفنى لأبد الآباد، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ" [رواه الترمذي، وصححه الألباني]، فانظر إلى مضيع الساعات، كم يفوته من النخيل؟ وقد قال بعض الصحابة "بلغنا أن نخل الجنة، ساقها من ذهب، وسعفها من حلل، وثمارها أبيض من اللبن، وألين من الزبد، وأحلى من العسل والشهد".


الأعمال بالخواتيم

وشدد "فريد" على أن آخر نفس تتنفسه تغلق به العاقبة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالخَوَاتِيمِ" [رواه البخاري]، وإنما أداة حصر في اللغة، فمَن ختم له بعمل من أعمال أهل الجنة دخل الجنة، ومن ختم له بعمل من أعمال أهل النار دخل النار -والعياذ بالله-، فنحن لا نأمن مع كل نفس، أن يكون آخر الأنفاس.


أحوال السلف في حرصهم على الوقت

وأوضح: كان السلف -رضي الله عنهم- أحرص الناس على أوقاتهم، قال رجل لأحد العلماء "قف أكلمك. فقال أوقف الشمس!"، وكان أحدهم إذا جلس عنده الناس فأطالوا الجلوس يقول "أما تريدون أن تقوموا، إن ملك الشمس يجرها لا يفتر".

وتابع: وكانوا يبخلون بالوقت والنفس أن ينفق في غير طاعة الله -عز وجل- أكثر من أشد الناس بخلًا بما له، وكانوا يعدون خصال الخير ويبكون على أنفسهم إن فاتهم شيء منها؛ دخلوا على عابد مريض، فنظر إلى قدميه وبكى، وقال "ما أغبرتا في سبيل الله"، وكان أحدهم يقول "أعد ثلاثين خصلة من خصال الخير، ليس فيَّ شيء منها"، ودخلوا على الجنيد وكان في النزع وكان يصلي، فقالوا له "الآن؟!"، فقال "الآن تطوى صحيفتي"، ودخلوا على أبي بكر النهشلي، وكان في النزع وكان صائمًا، فقالوا له "اشرب قليلًا من الماء"، فقال "حتى تغرب الشمس"، وبكى أحد السلف عند موته فسُئل عن سبب بكائه فقال "أبكي أن يصوم الصائمون ولست فيهم، ويصلي المصلون ولست فيهم!".

واصل "فريد" حديثه قائلًا: ما كفتهم الدنيا في طاعة الله -عز وجل-، بل تمنوا لو واصلوا الطاعة بعد الموت، كان ثابت البناني يقول "يا رب إن أذنت لأحد أن يصلي في قبره فأذن لي!"، وما كفتهم الدنيا في البكاء على أنفسهم، وتمنوا لو وجدوا مَن يبكي عنهم بعد موتهم، كان يزيد الرقاشي يبكي ويقول "يا يزيد، مَن يبكي بعدك لك؟ مَن يترضى ربك عنك؟!"، وبكى أحد السلف عند موته، فسئل عن سبب بكائه، فقال {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، فإذا كان الله عز وجل لا يتقبل إلا من المتقين فما أنعاه على كثيرٍ مِن العاملين.

واستطرد مستشار مجلس إدارة الدعوة السلفية: ولما نزل الموت بمحمد بن المنكدر أخذ يبكي بكاءً شديدًا، فأحضروا له أبا حازم الزاهد، فسأله عن سبب بكائه، فقال "سمعت الله -عز وجل- يقول: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]، فأخاف أن يبدو لي مِن الله ما لم أكن أحتسب! فأخذ أبو حازم يبكي معه، فقالوا له "أتينا بك من أجل تخفف عنه فزدت في بكائه، فأخبرهم بما قال". وقرئ على الإمام أحمد في مرض الوفاة أن طاووسًا كان يكره الأنين، فما أنّ حتى مات.