الكيان الصهيونى بين "اليهودية" و "الصهيونية"

  • 126
صورة أرشيفية

حرب دينية يسعى الكيان الصهيونى إلى إشعالها في المنطقة عبر بوابتين أولاهما اعتداءاتها المتكررة على المقدسات الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس المحتلة ودعمها للمستوطنين المتطرفين دينيا وفكريا في اقتحاماتهم المتصاعدة للمسجد الأقصى المبارك وثانيتهما - وهي الأحدث- إقرار قانون ما يسمى ب"يهودية" الدولة في إسرائيل.

ورغم التحذيرات العربية والإسلامية وحتى الدولية من مغبة إقدام الكيان الصهيونى على عبور هاتين البوابتين لما تمثلانه من خطورة شديدة ليس على ما يوصف بملف السلام الشرق أوسطي ومستقبل حل القضية الفلسطينية فحسب بل على الأمن الاقليمي والدولي إلا أن الكيان الصهوينى يمضى بتصميم وعناد على خوض غمار هذه المغامرة الخطرة التي ربما تجلب معها كارثة سياسية وعسكرية وأمنية على المنطقة وفقا لمراقبين وخبراء سياسيين وأمنيين ليسوا من العرب فقط، بل من الاوروبيين والامريكيين وحتى بعض المنتمين إليهم، ومنهم من يتولى مناصب حكومية وأخرى حزبية.

وما ينذر بقرب وقوع هذه الحرب فضلا عن الإصرار الصهوينى على إشعالها استمرار اليمين الصهيونى المتطرف في محاولاته الرامية إلى الاستيلاء الزماني ومن ثم المكاني على المسجد الأقصى من خلال خطة محكمة تسير وفق جدول زمني محسوب بدقة يستغل الظروف والوقائع السياسية في المنطقة ويعزز التنفيذ بدعم حكومي رسمي من حكومة لا تَقل يمينية وتعصبا عن تلك الاحزاب والجماعات المتطرفة.

أما البوابة الثانية التي عبرتها حكومة الاحتلال نحو تلك الحرب فتتمثل بإقرارها قانون "يهودية الدولة "، وفي الوقت الذي تعتبر هذه الفكرة غير جديدة فإنها ليست نابعة من فراغ على ضوء ورودها كمبدأ قام عليه الكيان الصهيونى حتى قبل وجوده ككيان سياسي في المنطقة ..فالفكرة نشأت في أكناف الحركة الصهيونية العالمية على يد اثنين من كبار مؤسسي هذه الحركة في مؤتمر بازل بسويسرا عام 1897 م وهما جوزيه ايشتوسي وبنيامين ثيودور هرتزل وتبعهما ثالث بتكريسها سياسيا وواقعيا وهو وزير خارجية بريطانيا آرثر جيمس بلفور بإصداره في الثاني من نوفمبر عام 1917 م وعده المشؤوم الذي منح "اليهود" ما سمي بوطن قومي لهم في فلسطين مستغلا وضعه كوزير لخارجية دولة كبرى كانت تستعمر فلسطين حينذاك.

من حينها تكرست هذه الفكرة كمبدأ في سياسات الحكومات الصهيونية المتعاقبة كان كل منها يسعى إلى بلورتها بطريقته وأصبحت بالتالي جزءا من القوانين الداخلية المتعلقة بمسألة المواطنة في الكيان الصهوينى وفق قاعدة ليس المهم أن تكون -إسرائيليا- بـ"الهوية أو الجنسية "حتى تحظى بحقوق المواطنة في إسرائيل بل عليك أن تكون "صهيونياً أوّلاً ويهوديا ثانيا ومعاديا للعرب ثالثا" حتى تصبح مواطنا حقيقيا.

وأخيرا خرجت الفكرة من أدراج الحكومة الصهوينية إلى العلن في زيّ مشروع قانون واضعة العالم بما فيه الأمم المتحدة والقوى الكبرى والعالمين العربي والاسلامي في مواجهة خطوة الكل يدرك مدى خطورة آثارها وانعكاساتها السياسية والأمنية على الامن والاستقرار الدولي بوصفها تمهيدا لتلك الحرب العقائدية، فقد صوتت حكومة الاحتلال قبل يومين لصالح مشروع قانون مثير للجدل يهدف إلى تعزيز الطابع اليهودي للكيان الصهوينى، وفي ختام اجتماع ساده التوتر صوتت الحكومة بغالبية 15 وزيرا لصالح مشروع القانون مقابل سبعة وزراء صوتوا ضده، وبحسب تقارير وسائل الإعلام فإن الوزراء من أحزاب الوسط التي يقودها كل من وزير المالية يائير لابيد ووزيرة العدل "تسيبي ليفني" صوتوا ضد مشروع القانون.

ومن المنتظر، أن يتم طرح مشروع القانون أمام البرلمان الإسرائيلي الكنيست للتصويت عليه في عدة قراءات في غضون اليومين المقبلين أو خلال الاسبوع المقبل -على أبعد تقدير- وحينها يصبح المشروع قانونا نافذا تتبناه حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية الحالية ويلتزم به ما سوف يعقبها من حكومات. ورغم ما أثاره المشروع من حفيظة نواب ووزراء في أحزاب الوسط واليسار الإسرائيلي الذين يتخوفون من أن يؤدي هذا المشروع إلى إضفاء الطابع المؤسساتي على التمييز ضد الاقلية العربية "الفلسطينية" التي بقيت في أرضها المحتلة منذ عام 1948م والتي تشكل حاليا ما نسبته 22 بالمائة من إجمالي سكان الكيان، أي نحو مليوني نسمة إلا أن آثاره وانعكاساته الخطيرة تتعدى دائرة فلسطينيي الداخل إلى دوائر أكبر وأوسع نطاقا في المنطقة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية برمتها من حيث مستقبل قيام دولة فلسطينية مستقلة أو مستقبل حل مسألة اللاجئين الفلسطينيين، إلى جانب تجسيد العنصرية الدينية والقومية كمبادئ سياسية في الشرق الاوسط وبالتالي نشر التطرف كفعل وإرهاب كرد فعل عليه.

وبغض النظر عمّا فجّرته هذه الخطوة من أزمة في الائتلاف الحاكم الصهوينى على خلفية معارضة حزبين رئيسيين لها من احزاب الوسط هما هناك مستقبل والحركة الشريكين في الائتلاف بسبب تبني أحزاب اليمين لمشروع القانون المقرر طرحه على الكنيست للتصويت عليه بالقراءة الأولى فقد جاءت ردود الفعل الفلسطينية والعربية والإسلامية عليه غاضبة منددة تعلن عن عزمها السعي لإحباطه.

وكانت وزيرة العدل الصهوينية زعيمة حزب الحركة الذي يمتلك ستة مقاعد في الكنيست قد أعربت عن اعتقادها بأن مشروع القانون يضر بالصهيونية ويدمر إسرائيل.. وهددت بأنها لن تسمح بتمرير هذا القانون الذي وصفته بالسيء.. فيما قال وزير المالية يائير لابيد من حزب هناك مستقبل الذي يمتلك تسعة عشر مقعدا في الكنيست ويعد الشريك الأكبر في الائتلاف إنه لن يصوت لصالح مشروع القانون.. في حين رأى زعيم المعارضة الصهوينية يتسحاق هرتسوج أن نتنياهو "لجأ إلى تبني المواقف المتطرفة لمجرد كسب شعبية في أوساط اليمين والذهاب إلى الانتخابات ولو ضحى بالمصالح القومية " على حد زعم هرتسوج.

ويأتي طرح هذا المشروع على الكنيست بينما يتفاقم التوتر بين حكومة الاحتلال والفلسطينيين في القدس الشرقية والضفة الغربية المحتلتين الذي ازداد حدة في الأسابيع الأخيرة حيث قال هرتسوج إن إقرار قانون القومية في الوقت الذي تشهد فيه مدينة القدس ومحيط المسجد الأقصى اضطرابات يعد أمرًا عديم المسئولية، وأضاف لصحيفة يديعوت أحرونوت، أن القرار سيزيد الأمور تعقيدا في القدس، واصفا نتنياهو بعديم الرؤية والفاقد للتخطيط.. ومن جانبها زعمت زعيمة حزب ميرتس زهافا جلؤون، أن حكومة نتنياهو صادقت على القانون الذي سيجعل الراية السوداء ترفرف على أنحاء إسرائيل.

أما ردود الفعل الفلسطينية الأولية على مشروع القانون فقد جاءت غاضبة مستنكرة معتبرة إياه أحدث ممارسات الوحشية الإسرائيلية في نطاق العنصرية التي تسعى حكومة نتنياهو إلى تأطيرها في قانون، مشيرة إلى أن هذا المشروع الذي أسفرت به الصهوينية عن عنصريتها يجعل من نحو مليوني مواطن عربي فلسطيني يعيشون في الدولة الصهيونية في مكانة منخفضة من حيث المواطنة مع بقية من يعيشون داخل حدود الدولة من اليهود باعتبار أن الدولة ووفقا لهذا القانون هي دولة الشعب اليهودي.

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن مفهوم يهودية الدولة أخذ منذ نحو عقد من الزمن يتردد على ألسنة عدد من المسؤولين وبات يشغل اهتمام وسائل الإعلام ويحتل حيّزاً في أوساط الباحثين والأكاديميين حيث من الملاحظ بوضوح أن ارتفاع وتيرة تردده وتداوله ترافق مع مسار عملية التفاوض بين الطرفين الفلسطيني والصهوينى.

كما وأنه يُطرح عادة من جانب الطرف الصهيونى كطلب أو اشتراط موجه إلى الطر ف الفلسطيني ويطفو على السطح في بعض الأحيان خلال الصراع الداخلي بين التيارات السياسية الصهيونية حول النشاط الاستيطاني في المناطق الفلسطينية المحتلة والتقدم في عملية السلام. ففي أعقاب تقديم الإدارة الأمريكية خطة خريطة الطريق أرفقت إسرائيل قبولها للخريطة المقترحة جملة من التحفّظات والتعديلات والإضافات مع أنها نسّقت معها في رسم معالم الخريطة وضرورة اعتراف الطرف الفلسطيني بيهودية الدولة في شهر مايو من عام 2003 وهدفت من وراء ذلك الالتفاف حول حق العودة للاجئين الفلسطينيين.

ولقد حرص رؤساء حكومة الاحتلال المتعاقبة بدءاً بأرئيل شارون وإنتهاء ببنيامين نتنياهو، على ترديد المطالبة بيهودية الدولة، ففي الرابع من يونيو عام 2003، ألقى شارون خطاباً طالب فيه الاعتراف بالدولة الصهيونية كدولة يهودية. وفي مؤتمر أنابوليس عاد رئيس الحكومة إيهود أولمرت وأكّد ضرورة الاعتراف بالدولة الصهيونية كدولة يهودية وذلك في السابع والعشرين من نوفمبر 2007م.

ولم يفوّت الرئيس الأمريكي باراك أوباما الفرصة حيث أكّد هو الآخر ما سبق لسلفه جورج بوش الابن تأييده الاعتراف بإالكيان الصهيونى كدولةيهودية وكرّر ذلك أمام لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية "إيباك" في العام 2008، وكذلك في سبتمبر من العام 2010 في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة حين جدد التأكيد على التزام الولايات المتحدة بالاعتراف بالكيان الصهوينى بصفته دولة يهودية.

وارتفعت وتيرة هذا المطلب الصهيونى في أثناء توجّه الطرف الفلسطيني للأمم المتحدة للحصول على اعتراف دولي بالدولة الفلسطينية على حدود العام 1967، واتخذ نوعاً من التحدي، ففي يوم الثامن والعشرين من يونيو 2011 م توجّه نتنياهو في كلمة له أمام أعضاء من الوكالة اليهودية في القدس المحتلة إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس مطالباً إيّاه بأن يردّد على لسانه جملة لا تتعدى كلمات أربع "أنا أقبل دولة يهودية". وما لبث أن جاء الرد على لسان الرئيس الفلسطيني، في الجلسة الافتتاحية للمجلس المركزي الفلسطيني الذي عقد في رام الله في 27 يوليو 2011 تضمّنت جملة قصيرة لم تتجاوز هي الأخرى كلمات أربع، تعبّر عن الرفض المطلق للاعتراف بالدولة اليهودية، أو يهودية الدولة "لن نقبل بها مطلقاً".

هنا تطرح الأسئلة نفسها "لماذا لا يكف صاحب القرار الصهيونى عن مخاطبته الطرف الفلسطيني الاعتراف بالدولة الصهيونية وفق الصيغة التي اعترفت بها سائر الدول؟، ولماذا الإصرار على صفة أو طبيعة الدولة أي على يهوديتها؟، وهل القصد من وراء ذلك يقتصر على وضع عقبات أمام المفاوضات بغية نسفها تهرّباً من الاستحقاقات المتأتية عنها؟، وما هي الأهداف الكامنة وراء الاعتراف العربي أو غيره، في تعريف الكيان الصهيونى لذاته وفق فهمه هو بأنه دولة يهودية؟، وما هي الأخطار الكامنة وراء الاعتراف والمتأتية عنه؟، ولعلّ السؤال الأهم، والأبسط في الوقت نفسه يتمثل في التالي: هل يحق لصاحب القرار الفلسطيني المخوّل، الاعتراف بيهودية الدولة، وفق تعريف أو مفهوم رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو لها.
وتأتي الإجابات على هذه الأسئلة واضحة لا لبس فيها ليس على ألسنة العديد من القيادات والأحزاب والأوساط الفلسطينية فحسب بل على ألسنة العديد من الخبراء والمعنيين بالقضية الفلسطينية وأزمة الشرق الأوسط من الغربيين وهي أن هناك فرقا كبيرا وبعيدا جدا بين مفهوم القومية والدّين، فليس هناك في التاريخ ومنذ نزول الأديان السماوية قومية يهودية بل ديانة يهودية.

وهنا يستدعي مفهوم أو مصطلح دولة يهودية وما ينطوي عليه من مضمون وقفة قصيرة مع محاولة عدم الابتعاد عن فكرة الدولة اليهودية وهي التفريق بين اليهودية كدين وبينها كقومية إذ أن اليهود من قوميات شتى. فأي عرق أو قومية تجمع اليهودي الروسي على سبيل المثال باليهودي البريطاني أو الفرنسي أو الجنوب افريقي. ثم أن إقرار مثل هذه المغالطة التاريخية والسياسية سيفتح المجال واسعا لنشوء دول او كيانات ذات هوية أو صبغة دينية بحتة على أنها قومية. وهنا تكمن الخطورة وخاصة على منطقة الشرق الاوسط المتعددة الثقافات والديانات والإنتماءات والاعراق والقوميات لتتحول من منطقة متجانسة إلى منطقة مفتّتة في كيانات هزيلة. وفي النهاية لان هذا الامر على خطورته يصب في مصلحة الكيان الصهيونى.

ثم إن إقرار مثل هذا القانون والاعتراف به من قبل بعض القوى رغم رفض غالبية العالم له سيلغي تدريجيا حق العودة للاجئين الفلسطينيين ويمهّد بالتالي إلى طرد الفلسطينيين من أراضيهم في فلسطين المحتلة إلى خارجها أو مقايضتهم بالمستوطنين اليهود في الضفة الغربية.. وهذا أخطر ما في مشروع القانون فضلا عما سيفجّره من صراعات وحروب عقائدية دينية في المنطقة ويلغي فكرة ومبدأ قومية الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره واقامة دولته المستقلة على أرضه.

وعليه يمكن إدراك معنى هذه الخطة الخطيرة وأهدافها من خلال مسارعة المجلس الوطني الفلسطيني البرلمان إلى مطالبة برلمانات العالم بتحمل مسؤولياتها تجاه ما يسمى بمشروع قانون الدولة القومية اليهودية الذي أقرته حكومة الاحتلال، داعيا إلى محاربة هذا المشروع التمييزي العنصري الذي يلغي حقوق الشعب الفلسطيني ويلغي حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.

وبدورها طالبت الخارجية الفلسطينية المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته تجاه ترسيخ إسرائيل لنظام الفصل العنصري عبر إقرار مثل هذا القانون المُدان والمرفوض بشدة، واعتبرت الخارجية الفلسطينية هذا القانون بمثابة جزء من حرب شاملة تشنها حكومة الاحتلال لتهويد القدس ومقدساتها وتفريغها من المواطنين الفلسطينيين بكافة الأشكال وتصعيدا خطيرا للأوضاع، وإعلانا صريحا عن تبني حكومة الاحتلال لنظام الفصل العنصري ضد الشعب الفلسطيني، بديلا لحل الدولتين، وتشريعا للإرهاب المنظم القائم على الفاشية ضد العرب الفلسطينيين بديلا للحل التفاوضي للصراع، وتكريساً لمفردات الحرب الدينية ومفاهيمها وأدواتها.

ومن جانبها أدانت منظمة التعاون الإسلامي بعد الجامعة العربية إقدام حكومة الاحتلال على المصادقة على مشروع قانون "يهودية الدولة"، معتبرة ذلك ترسيخاً وشرعنة لنظام التمييز العنصري "الابارتايد" القائم على العداء والاحتلال والتطرف الذي تمارسه الصهيونية على أرض الواقع، وطالبت المنظمة والجامعة دول العالم كافة ومنظماته الحقوقية والسياسية بما فيها الامم المتحدة بالتعامل بمنتهى الجدية مع هذا القانون بوصفه فصلا آخر من فصول نظام الفصل العنصري الذي تعمل حكومة نتنياهو على تكريسه وتعزيزه في فلسطين مع اتخاذ كافة الخطوات اللازمة لإدانته ولوقفه فورا، وضرورة التعامل مع حكومة الاحتلال كحكومة فصل عنصري واحتلال طبقا لما يمليه القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وذلك لإنقاذ مفهوم السلام والمفاوضات ومبدأ حل الدولتين من التلاشي.