• الرئيسية
  • مقالات
  • الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (120) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (24)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (120) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (24)

  • 52

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).

قوله -تعالى- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، فيه فوائد:

الفائدة الثالثة:

روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: لَمَّا نَزَلَتِ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ قَالَ: لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ بِشِرْكٍ، أَوَلَمْ تَسْمَعُوا ‌إِلَى ‌قَوْلِ ‌لُقْمَانَ ‌لِابْنِهِ: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان: 13).  

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "الذي شَقَّ عليهم أنهم ظنوا أن الظلم المشروط عدمه، هو ظلم العبد نفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء لمَن لم يظلم نفسه فشق لك عليهم، فبيَّن لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله -تعالى-، وحينئذٍ فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمَن يلبس إيمانه بهذا الظلم".

وهذا لا يمنع أن يؤاخذ أحدٌ بظلمه لنفسه بذنبٍ إذا لم يتب منه، كما دَلَّت عليه أدلة القرآن والسنة في أصحاب الكبائر، بل الذنوب جميعًا؛ قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ ‌نَارَ ‌جَهَنَّمَ ‌خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) (الجن: 23)، والآية وإن وردت في الشرك الأكبر أيضًا بدليل قوله -تعالى-: (‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌لَا ‌يَغْفِرُ ‌أَنْ ‌يُشْرَكَ ‌بِهِ ‌وَيَغْفِرُ ‌مَا ‌دُونَ ‌ذَلِكَ ‌لِمَنْ ‌يَشَاءُ) (النساء: 48)؛ فهي تدل على خطر المعصية مطلقًا.

وقال الله -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌اجْتَنِبُوا ‌كَثِيرًا ‌مِنَ ‌الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (الحجرات: 12)، وقال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا ‌بِحَرْبٍ ‌مِنَ ‌اللَّهِ ‌وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (البقرة: 278-279).

وقال -عز وجل-: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . ‌يُضَاعَفْ ‌لَهُ ‌الْعَذَابُ ‌يَوْمَ ‌الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا . إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الفرقان: 68-70)؛ فدَلَّ ذلك على استحقاق الزاني وقاتل النفس والمشرك لعذاب الله -سبحانه وتعالى-؛ إلا أنه لا يُخَلَّد في النار خلودًا أبديًّا إلا مَن مات على الشرك، كما دَلَّت عليه آية النساء: (‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌لَا ‌يَغْفِرُ ‌أَنْ ‌يُشْرَكَ ‌بِهِ ‌وَيَغْفِرُ ‌مَا ‌دُونَ ‌ذَلِكَ ‌لِمَنْ ‌يَشَاءُ) (النساء: 48).

وقال -سبحانه وتعالى-: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ‌إِنَّ ‌قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا . وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا . وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) (الإسراء: 31-33)، إلى آخر السورة؛ فإن فيها عذاب أصحاب الذنوب، وتحمُّلهم الآثام بقدر ذنوبهم.

وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث في عذاب القبر: (إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَكَانَ ‌يَمْشِي ‌بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا الْآخَرُ: فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ) (متفق عليه).

وأحاديث إخراج عصاة الموحِّدين من النار متواترة، وهي تتضمن دخول بعض الموحدين النار ثم خروجهم منها؛ لذا نقول: إن مَن سَلِم مِن أجناس الظلم الثلاثة: الشرك، وظلم العباد، وظلمه لنفسه بما دون الشرك، كان له الأمن التام والاهتداء التام، ومَن لم يسلم مِن ظلمه لنفسه كان له مطلق الأمن والاهتداء؛ بمعنى أصل الأمن، لا الأمن الكامل، أي: أنه لا بد أن يدخل الجنة، لكن قبل ذلك يحصل له مِن نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص مِن إيمانه بظلمه لنفسه.

فالظلم التام المطلق وهو الشرك، رافع لمطلق الأمن والاهتداء، ومزيل لأصلهما، ومطلق الظلم أي: ما دون الشرك رافع للأمن المطلق والاهتداء المطلق، أي: الكاملين التامين، والشرك ظلم العبد لنفسه بوضعها في غير موضعها في أعظم أمرٍ خُلِق من أجله، وهو عبودية الله -عز وجل-؛ فبدلًا من عبوديتها لله جعلها تَعْبُد مَن سواه، ولا يصح أن يُقَال: إن الشرك الأكبر ظلم لله، فالله أعلى وأعز من أن يَقْدِر العباد على ظلمه أو ضره أو نفعه، كما قال -سبحانه وتعالى- في الحديث القدسي: (‌يَا ‌عِبَادِي ‌إِنَّكُمْ ‌لَنْ ‌تَبْلُغُوا ‌ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي) (رواه مسلم).

فعقائدهم الفاسدة لا تغيِّر من الحق شيئًا؛ قال الله -سبحانه وتعالى-: (‌وَمَا ‌ظَلَمُونَا ‌وَلَكِنْ ‌كَانُوا ‌أَنْفُسَهُمْ ‌يَظْلِمُونَ) (البقرة: 57)، وهذا الأمن والاهتداء لأهل الإيمان الخالص من الشرك يكون في الدنيا والآخرة؛ (‌أَلَا ‌بِذِكْرِ ‌اللَّهِ ‌تَطْمَئِنُّ ‌الْقُلُوبُ) (الرعد: 28).

وهذه الآية -مع الحديث الشريف في سبب نزولها-: دليل على صحة العمل بمفهوم المخالفة؛ لأن الصحابة -رضي الله عنهم- ظنوا أن مفهوم الآية: أن الذين آمنوا ولبسوا إيمانهم بظلم، أولئك ليس لهم أمن ولا اهتداء، فبيَّن لهم -صلى الله عليه وآله وسلم- أن هذا مِن العام الذي أُرِيد به الخاص؛ أن لفظة الظلم وَرَدَتْ في سياق النفي فهي في صيغة العموم، لكن أُرِيد به الخاص، وهو الظلم الأكبر بدلالة السُّنة، وهذا يتضمَّن أيضًا العمل بالعموم حتى يأتي المخصص أو يأتي الدليل الذي يدل على أنه عام أريد به الخاص.

ولا يجوز ادِّعَاء أن هذا العموم أُرِيد به الخصوص، أو أنه مخصص إلا بالدليل، وهذا الدليل ثابت من السنة، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- أقرهم على العمل بالمفهوم، وأقرهم على العمل بالعموم حتى بيَّن لهم -صلى الله عليه وسلم- أنه أُرِيد به الخاص، ويبقى الاحتجاج على عذاب أصحاب الذنوب مستفادًا من دليل آخر، كما ذكرناه في بعض أدلة عذاب أصحاب الذنوب، وهي أكثر مِن أن تُحْصَى أو تُجمَع في هذا السياق.

وفي هذه الآية -مع هذا الحديث أيضًا-: دليل على أن القرآن لا يجوز تفسيرة إلا بالرجوع إلا السنة؛ فلو فُهِم بمقتضى اللغة العربية وحدها؛ لقلنا: إن أي ظلم للنفس يمنع الأمن والاهتداء بالكلية، وهذا باطل، وإنما هو على مذهب الخوراج، ولكن دَلَّت أدلة السنة بأن هذا -كما ذكرنا- من العام الذي أريد به الخاص، وكذلك دلت أدلة الكتاب والسنة على عذاب بعض أصحاب الذنوب دون أن يُخَلَّدوا في النار، فالذين يقولون: إن القرآن يفسَّر بمقتضى اللغة العربية دون رجوع إلى آيات القرآن وإلى أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ودون أقوال الصحابة، على شفا خطر عظيم، بل على بدعة ضلالة، لا بد وأن يفسَّر القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بأقوال الصحابة، ثم بأقوال التابعين، وما اختلفوا فيه بعد ذلك فيرجَّح بمقتضى اللغة العربية، وليس أنه يُرجَع إلى تفسير القرآن إليها بمجردها دون نَظَرٍ في الأدلة الأربعة.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.