روسيا والصين تسعيان لنظام عالمي جديد يُلغى فيه القطب الواحد

تحالف وتعاون اقتصادي وإقليمي متبادل.. وبكِّين تستغل الأحداث الأوكرانية جيدًا

  • 52
صورة أرشيفية معبرة

ينشغل الكثيرون بمستقبل العالم وسط الأحداث المتسارعة التي حدثت خلال الأعوام الماضية ولا تزال مستمرة حتى الآن؛ فمنذ عامين تقريبًا ظهر فيروس "كورونا" وانتشر بسرعة فائقة في العالم أجمع، وكانت له تداعيات سلبية لا سيما على الاقتصاد العالمي، ولم يكد العالم يتخلص منه ويحاول استعادة توازنه، حتى بدأ مشهد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في صيف عام 2021م؛ ما فتح الباب واسعًا أمام التكهنات الخاصة بتراجع القيادة الأمريكية على الساحة العالمية، وأفول نجم العالم أحادي القطب الذي تزعمته واشنطن طوال عقود ماضية.

الهجوم على أوكرانيا

وسرعان ما طرأت أزمة معقدة على المشهد الدولي هي مهاجمة روسيا لجارتها أوكرانيا؛ ما زاد التوقعات بشأن بداية نظام عالمي جديد ما بين قوى تحاول جاهدة الحفاظ على مكانتها كالولايات المتحدة الأمريكية، وأخرى صاعدة مثل الصين، أو ثالثة تسعى لاستعادة أمجاد الماضي مثل روسي؛ وبسبب تلك الحرب يظهر سؤال ملح حول مستقبل النظام العالمي، ليس فقط لأن الهجوم العسكري لموسكو على كييف يعد أخطر أزمة عسكرية واجهتها أوروبا منذ نهاية الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا، بل لأن هذه الحرب تحدث بعد انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان وعودة حركة طالبان المتطرفة للمشهد السياسي مرة أخرى والسيطرة على الحكم في كابول.

تحالف روسي صيني

في يوم 4 من شهر فبراير الماضي التقى الزعيمان الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الصيني "شين جين بينج"، وأصدرا بيانًا ختاميًّا مشتركًا أعلنا فيه عن دخول العلاقات الدولية حقبة جديدة وسط تحالفهما غير المحدود، وأعربا حينذاك عن قلقهما من تحالف "أوكوس" الذي يجمع أمريكا وبريطانيا وأستراليا؛ لأنه يزيد من خطورة سباق التسلح العسكري في المنطقة بما فيها الأسلحة النووية.

اللافت للنظر أن هذا البيان صدر قبل الهجوم العسكري الروسي بـ 20 يومًا، وبعد بدء الحرب امتعنت بكِّين عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يدين العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا وتصنيفها "غزوًا". بل إن هذا البيان أظهر سعي موسكو وبكِّين إلى تحقيق التعددية القطبية العالمية والتعاون الإقليمي والاقتصادي المتبادل، وسط وجود دور مركزي وتنسيقي لهيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن.

ثم بعد ذلك في يوم 7 من شهر مارس الماضي أكدت الصين عبر وزير خارجيتها "وانغ يي" التزامها بصداقتها الدائمة والتعاون المتبادل مع روسيا، القائم على منطق واضح للتاريخ نابع من دفاع بكِّين عن المخاوف الأمنية المنطقية لموسكو.

وعندما نعود لعام 2008م نتذكر كيف سحق الجيش الروسي نظيره الجورجي، وجرى وقتذاك اعتراف رسمي روسي أيضًا بمنطقتين انفصاليتين هما "أوستيا وأبخازيا" على غرار الاعتراف الروسي الحالي بجمهوريتي "دوينتسك، ولوهانسك" الانفصاليتين، ونشرت روسيا الآلاف من قواتها التي ما زالت موجودة هناك حتى الآن؛ وهذا الحدث في جورجيا عطل التقدم الأمريكي في المثلث الاستراتيجي "القوقاز، قزوين، آسيا الوسطى"، وربما في أوروبا الشرقية كذلك لمدة سنوات طويلة مقبلة، وهي الاستراتيجية نفسها التي اتبعها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتياحه القرم عام 2014م ثم أوكرانيا كلها حاليًّا.

وتعد هذه التحركات استراتيجية مخططة للخروج من النظام العالمي أحادي القطب، وهو ما بدا صراحة في تصريحات كبار المسؤولي الروس؛ فقبل حوالي 5 سنوات دعا وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف" علانية إلى أهمية وجود نظام عالمي جديد لا تهيمن عليه الدول الغربية، والتعامل مع واشنطن من منطلق البراجماتية، وكان ذلك في منتدى الأمن في مدينة ميونيخ الألمانية عام 2017م، وبحضور "مايك بنس" نائب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب وكبار المسؤولين الغربيين.

ومن هذا المنطلق لم يكن تصريح "سيرجي لافروف" خلال الأسبوع الماضي بخصوص نظام عالمي جديد مفاجئًا؛ فقد اتهم أمريكا بالسعي إلى الهيمنة على العالم، واتهم الدول الغربية بالاتجاه نحو استبدال القانون الدولي بنظام مبني على قواعد تعدها دول بعينها.

بكِّين تحدد النظام

رغم أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو الذي أثار هذا التحول في النظام العالمي من خلال ما سبق، فإن الصين هي التي سوف تحدده مستقبلًا؛ بحيث يرتبط باستراتيجيات الرئيس الصيني، وبالتحديد فيما يخص ثلاثة أمور هي: سياساته الخارجية، ورؤيته لنظام دولي بديل، والمخططات الاقتصادية والسياسية الكبرى لبلاده. ومع تزايد اعتماد موسكو اقتصاديًّا على بكين، فإن الصين سيكون صوتها حاسمًا في تشكيل المشهد الدولي الجديد.

وما يؤكد ذلك أن هناك صفقة أعلن عنها بوتين بخصوص النفط والغاز تقدر بحوالي 115.5 مليار دولار ستمكن روسيا من الاستمرار في زيادة الصادرات إلى بكين خلال ربع القرن المقبل، وينبغي عدم نسيان أن موسكو ثالث أكبر مورد للغاز لبكِّين. وإضافة إلى ذلك جددت شركتا النفط الروسية العملاقة "روسنفت" والبترول الوطنية الصينية "سي إن بي سي" صفقة بينهما لتوريد 100 مليون طن من النفط على مدى الـ10 سنوات المقبلة.

وبخصوص الهجمة العسكرية على أوكرانيا، فبعد بضعة أسابيع من دخول الدبابات الروسية إليها، رفعت الصين القيود المفروضة على واردات القمح من روسيا؛ بهدف تقوية التحالف بينهما وإضعاف العقوبات الاقتصادية الغربية على الاقتصاد الروسي، وأعلنت البنوك الروسية أنها ستصدر بطاقات باستخدام نظام مشغل بطاقة "يونيون باي" الصيني؛ وهذا التغيير مهم فيما يتعلق بخطط الدولتين مستقبلًا.

ليس ذلك فحسب، بل إن بكين قررت زيادة الإنفاق الدفاعي لديها، وخصصت 7.7% من ناتجها المحلي الإجمالي لإنشاء جيش على مستوى عالمي بحلول عام 2035م، وتمضي الصين وبقوة نحو التنمية الاقتصادية والتكنولوجية، وتركز كثيرًا على الترويج لبديل للدولار الأمريكي كعملة دولية في المعاملات المالية. وتنتشر منذ نحو أسبوعين معلومات عن محادثات صينية سعودية لشراء النفط بالـ "يوان" الصيني بدلًا من الدولار الأمريكي؛ ما يؤكد أن الحرب في أوكرانيا كانت فرصة كبيرة استغلتها بكِّين أحسن استغلال من أجل تقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي.

علاوة على ذلك فإن علاقة الحكومة الصينية الحالية مع روسيا ستثبت أنها مفيدة لالتزامها السياسي الأوسع ببناء دولة قوية كاملة ومتجددة بحلول عام 2049م، وهو العام الذي ستحل فيه الذكرى الـ 100 لتأسيس جمهورية الصين الشعبية. ويدعم كذلك توجهات بويت نحو استعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي السابق، وإيجاد نظام عالمي جديد يبرز فيه دور موسكو بقوة، لا سيما أن التحركات الغربية يبدو منها محاولة ردع روسيا وأي دولة أخرى تسعى للاستقلال السياسي والعسكري، ويبدو كذلك أن حلف شمال الأطلسي "الناتو" اختار كييف كي تكون وسيلة لمحاولة إضعاف وقمع استقلالية موسكو.