فرنسا تحاول إعادة أمجادها بالساحل الأفريقي عبر بوابة ليبيا الزراعية

  • 18
الفتح - أرشيفية

تسعى فرنسا على إثر خسارتها نفوذها في عدد من البلدان الأفريقية الغنية بالموارد الطبيعية والمنجمية كمالي وبوركينا فاسو لتثبيت قدميها من جديد في ليبيا انطلاقًا من إقليم فزان جنوب البلاد الذي يعد أحد مستعمراتها السابقة، بخاصة بعد تموقع مجموعة "فاغنر" الروسية قرب هذه المنطقة.

التحركات الفرنسية ترجمتها على أرض الواقع الأنشطة الدبلوماسية التي يقودها السفير الفرنسي لدى ليبيا مصطفى مهراج سياسيًّا وعسكريًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا؛ إذ تفتحت أخيرًا عيون باريس على القطاع الزراعي في البلاد الذي يتوافر على أراضٍ زراعية عذراء، خصوصًا في الجنوب الغني بالمياه الجوفية والمعادن الثمينة.

وخلال الأيام الأخيرة، اتفق مهراج ضمن لقاء جمعه بالنائب الأول لرئيس حكومة الوحدة الوطنية وزير الزراعة والثروة الحيوانية حسين القطراني على" تفعيل المشروعات الزراعية والأمن الغذائي والصحة الحيوانية والبيطرية".

موطء قدم

هذه التحركات اعتبرها مراقبون للشأن الليبي محاولات فرنسية لإيجاد موطء قدم في البلد الشمال أفريقي عبر المجال الزراعي بعد أن فشلت باريس عسكريا وسياسيا في ليبيا إثر تشوه صورتها بعد العثور على صواريخ "جافلين" في مدينة غريان، عقب فرار قوات المشير خليفة حفتر منها أثناء حربه على العاصمة طرابلس عام 2019.

آنذاك أكدت الولايات المتحدة الأمريكية أنها باعت هذه الصواريخ إلى فرنسا؛ مما دفع حفتر لاحقا إلى الاعتماد على مجموعة "فاغنر" الروسية، في حين قال آخرون إن وضع باريس يدها على المجال الزراعي هو ضرب للأمن القومي الليبي، خاصة أن العالم يعيش أزمة على مستوى "حبوب القمح" بعد الحرب الأوكرانية- الروسية.

وما بين الحلم الفرنسي والتخوف الليبي، أكدت وزارة الزراعة والثروة الحيوانية الليبية عبر صفحتها على "فيسبوك" أن التعاون سيقتصر فقط على "إمكان تنسيق الجهود الوطنية والدولية لدفع عجلة التنمية الزراعية والحيوانية".

بديل أفريقي

ووصف مدير المشروعات في المركز الأفريقي- العربي للاستثمار والتنمية محمد مطيريد المحادثات الفرنسية في المجال الزراعي بالجديدة من نوعها، خاصة أنها تأتي بعد خسارة فرنسا نفوذها في عدد من الدول الأفريقية، وجاءت بعد الأزمة الاقتصادية العالمية التي سببتها الحرب الروسية- الأوكرانية.

ونفى مطيريد ما أكدته وزارة الزراعة الليبية من أن التعاون الفرنسي- الليبي في المجال الزراعي لن يتعدى وضع تصورات تعاون ثنائي بين الدولتين، لا سيما أن نوايا فرنسا تنحصر دوما في كيفية استغلال واستنزاف مقدرات مستعمراتها التي يستند إليها الاقتصاد، وفق تعبيره.

وتساءل عن سبب التوجه للتعاون الليبي- الفرنسي في المجال الزراعي خلال هذا التوقيت بالتحديد من حكومة منتهية الولاية (حكومة عبدالحميد الدبيبة)، من المنتظر أن تحل مكانها حكومة جديدة قريباً؟ مشيرا إلى أن حكومة الدبيبة ستعتمد سياسة الكتمان والتضليل وستقمع حق المواطن الليبي في معرفة المعلومة الصريحة بخصوص هذا التعاون الزراعي مع فرنسا؛ إذ لن يُفصح لا عن كيفية التعاقد ولا عن مدته مثلما حدث سابقا من هذه الحكومة مع إيطاليا أثناء توقيع عقود ثنائية في مجال الغاز والنفط التي حامت حولها شكوك كثيرة، وكانت عبارة عن مكسب سياسي للدبيبة قابله تفريط في مقدرات وطنية لضمان استمراره في سدة الحكم.

وتابع مطيريد أن الأراضي الصالحة للزراعة تتركز جنوب البلاد في منطقة تعرف فرنسا تضاريسها وخصائصها وإمكاناتها الزراعية جيدا بحكم أنها مستعمرة سابقة لها، كما أنها فرصة مهمة لباريس لتغطية حجم خسائرها في دول مثل بوركينا فاسو والنيجر وعدد آخر من الدول الأفريقية.

مطامع قديمة

وأكد مدير المشروعات "أن المطامع الفرنسية جنوب البلاد ليست جديدة؛ إذ سبق ودعمت باريس بعض قبائل الجنوب الليبي من أجل فرض سيطرة تقسيم في إقليم فزان حتى يكون إقليما مستقلا بذاته خارج سيطرة السلطات الليبية".

وكذلك عملت فرنسا على استضافة عدد من المعارضين الليبيين المقيمين في باريس الذين يسوقون لفكرة الوجود الفرنسي في الجنوب، مقابل مكاسب شخصية لهم، وفقا لـمطيريد الذي نوه إلى أن إقامة مثل هذه المشروعات تحتاج إلى دولة مستقرة وحكومة موحدة حتى تضع رؤية حقيقية تحقق ناتجا محليا في المجال الزراعي، أما الحديث عن تعاون بشكل كهذا، فإنه لا يعدو أن يكون سوى صفقة سياسية أرباحها أحادية الجانب، ستعمل فيها فرنسا على فرض شروطها مقابل دعم حكومة الدبيبة لا أكثر، خاصة إثر ميل الكفة الأميركية إلى دعم قائد الجيش الليبي خليفة حفتر شرق البلاد، وتأكيدها ضرورة تشكيل حكومة جديدة بديلة للحالية في طرابلس.

ووصف الأمر بالمؤشر الخطر إلى استنزاف المقدرات الليبية، لا سيما أن لدى فرنسا أرشيفا ثقيلا في احتكار المشروعات وتوريط الحكومات الأفريقية في عقود طويلة تكون فيها هي الرابح الوحيد.

إعادة تموضع

من جانبه، رأى الباحث في الشأن الأفريقي موسي تيهو ساي أن توجه فرنسا نحو التعاون الزراعي مع ليبيا مجرد محاولات لإعادة ترتيب مختلف للساحل الأفريقي بصفة عامة؛ فليبيا ليست الوحيدة المعنية. مشيرا إلى أن باريس تحاول تغيير الوجه القديم الذي عرفت به على أنها سارقة لثروات القارة السمراء أو أن حضورها يقتصر فقط على إدارة الجوانب الأمنية والتنموية، خصوصا من دون شراكة تعود بالنفع على جميع الأطراف.

وقال ساي في تصريح صحفي إن فرنسا تعي جيدا الإمكانات التي تتوافر عليها ليبيا في المجال الزراعي؛ حيث يمتلك البلد أراض صالحة للزراعة تقدر بنحو 3.6 مليون هكتار؛ أي ما يعادل 2.07‎% من إجمالي مساحة البلاد، وفق البيانات الرسمية.

وتنقسم المشروعات الزراعية العامة في ليبيا إلى ثلاث مناطق جغرافية: هي الجنوب الغربي (فزان) وبها مشروعات "مكنوسة" و"برجوج" و"الدبوات" و"الديسه"، والمنطقة الوسطى وبها مشروع "أبوشيبه"، ثم الجنوب الشرقي (السرير والكفرة) وبها "مشروع السرير" جزء شمالي وجزء جنوبي ومشروع "الكفرة الإنتاجي"، إضافة إلى المياه الجوفية.

رسائل سياسية

وبحسب الباحث تيهو ساي فإن لدى فرنسا هدفين: الأول يتعلق بإعادة التموضع على شكل شراكات اقتصادية وتنموية لتطوير الأبيات الزراعية في ليبيا؛ ليكون بذلك نموذجا يزيل ولو على نحو  تدريجي الصورة النمطية التي لازمت باريس باعتبارها قوة استعمارية لم تقدم أي مشروعات تنموية في المناطق التي كانت موجودة فيها.

أما الهدف الثاني: فإنه لا يخلو من رسائل سياسية في ظل أزمة الحبوب العالمية؛ إذ أضحت المنطقة الجنوبية الليبية محل تسابق دولي لأن هناك مشروعات إيطالية للاستثمار في منطقة الجنوب، وأميركا هي الأخرى بدأت بإنجاز خطتها المتمثلة في إعمار مدينة مرزق والاهتمام بإصلاح الأراضي هناك.

ويشير كل ذلك إلى نوع من الاصطفاف الدولي في مسألة الزراعة بليبيا، خصوصا ضمن الجزء الجنوبي بحكم قربه من منطقة الساحل الأفريقي، ووجود ثروات مهمة لا تتعلق بالزراعة فقط بل بالمعادن الثمينة أيضا؛ مما يؤكد أن المشروعات الزراعية ستكون بوابة للتنقيب عنها.

وتابع تيهو ساي أن فرنسا تحاول استغلال معرفتها بهذه المنطقة لإعادة رسم نفوذها بصورة أخرى؛ فالجنوب الليبي يشكل قوة لباريس لأنه سيكون نقطة انطلاقها لإعادة رسم نفوذها في منطقة الساحل الأفريقي، محذرا من وقوع الأمن الغذائي الليبي في يد الدول الأجنبية عبر تنفيذ شراكات زراعية معها بعد اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية التي سببت إرباكا في الأسواق الدولية، لا سيما أن الاقتصاد الليبي مصنف من بين الاقتصادات الهشة التي تعتمد اعتمادًا كليا على الاستيراد.

وأخيرًا دعا تيهو ساي إلى العمل على إحياء المشروعات الزراعية وتغيير الاستراتيجيات الفلاحية المعتمدة في ليبيا لضمان الأمن الغذائي تفاديا لأي إشكالية في صورة نشوب أزمة اقتصادية جديدة، خاصة أن الجنوب الغربي يمتلك وحده نحو 1700 دائرة بمساحة تقدر بـ50 هكتارًا لكل دائرة تعرف بزراعة القمح والشعير، ووصلت كمية الإنتاج عام 2009 إلى 585 ألف طن من قمح صلب وطري وشعير.