حول الأخذ بالورع والاحتياط!

  • 217

1- الأخذ بالاحتياط لا يستلزم رميَ المخالف بالتساهل، والأخذ بالورع لا يستلزم رميَ المخالف برقة الديانة!
ومن أرهق نفسه في تتبع ذلك عَلِمَ أن هذا من مسالك الترجيح أحيانًا، وإن لم يقتضِ ذلك الصحة المطلقة، حتى لا يَظُنَّ أحدٌ أن من رَجَّحَ بها قد جعلها معيارًا على التمسك بالسنة والورع!
بل هذا من إساءة الظن بالأئمة وعدم فهمِ كلامِهم على وجهه.
فلا يقتضي ذلك أن تكون تلك المسالك صوابًا دائمًا، كما أنها لا تقتضي أيضًا أن يُعتقد في مخالفها عكس ذلك، وإلا استلزم ذلك أن يسوء ظنُّ العلماء بعضِهم في بعض ممن سَلَكَ تلك المسالك في الترجيح!

2- يُعبَّر عن هذه القاعدة بالورع أو الأخذ بالأحوط أو الخروج من الخلاف..

3- وضوابط ذلك ذكرها العز بن عبد السلام في القواعد (1/ 266)، والسيوطي في الأشباه والنظائر (1/ 137)، والسبكي في الأشباه والنظائر (1/ 128)، والزركشي في المنثور (2/ 128).

4- ولا أدري ماذا يقول من ينفي ذلك عن الأئمة في قاعدة الحنفية (الاحتياط في باب العبادات واجب)، وفي قول المالكية والشافعية والحنابلة بالنص على (استحباب الخروج من الخلاف)، ولم ينص أحد منهم على إنكار ذلك جملة، وإن اختلفوا في تفاصيل ذلك، بل جعله تاج الدين السبكي رحمه الله كالمجمع عليه.
* قال تاج الدين السبكي رحمه الله:
ومن القواعد ما اشتهر في كلام كثيرٍ من الأئمة ويكاد يحسبه الفقيه مجمعًا عليه: أنَّ الخروج من الخلاف أولى وأفضل. [الأشباه والنظائر: 1/ 127]
* وقال أيضًا:
القول بالخروج من الخلاف أفضل، ثابت من حيث العموم، واعتماده من الورع المطلوب شرعًا. [الأشباه والنظائر: 1/ 128]
* وقال الشاطبي رحمه الله:
والشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم والتحرز مما عسى أن يكون طريقاً إلى مفسدةٍ ، فإذا كان هذا معلوماً على الجملة والتفصيل, فليس العمل عليه ببدع في الشريعة، بل هو أصل من أصولها. [الموافقات: 6/ 119]

5- واستنبط بعضهم دلالتها من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}
ومن حديث (الحلالُ بيّنٌ والحرامُ بيّنٌ، وبينهما مُشَبَّهاتٌ لا يعلمُها كثيرٌ من الناسِ، فمَنِ اتقى المُشَبَّهاتِ استبرَأ لدينِه وعِرضِه ... ) [رواه البخاري ومسلم]
ومن قوله صلى الله عليه وسلم: (احتجبي منه يا سودة) في حديث اختلاف سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة. [رواه البخاري ومسلم]

6- وقد نص على هذه القاعدة من المعاصرين الدكتور محمد بكر إسماعيل حبيب أستاذ أصول الفقه في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود في كتابه (القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه)، والدكتور محمد مصطفى الزحيلي في كتابه (القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة)..

7- أما أمثلة ذلك، فأذكر مثالًا واحدًا لكل مذهب من المذاهب الأربعة:
* عند الحنفية:
استحباب الوضوء من مس الذكر، مع قولهم بعدم النقض بالمس؛ خروجاً من خلاف من أوجبه. [حاشية ابن عابدين: 1/ 158]
* عند الشافعية:
استحباب غسل المني، مع قولهم بطهارته؛ خروجًا من خلاف من قال بنجاسته. [الأشباه والنظائر للسيوطي: 1/ 136]
* عند المالكية:
كراهة استعمال الماء الذي ولغ فيه الكلب، مع قولهم بطهارته؛ خروجًا من خلاف من قال بنجاسته. [مواهب الجليل: 1/ 103]
* عند الحنابلة:
القول بكراهة استعمال الماء المستعمل في غسل كافر؛ خروجًا من خلاف من قال يسلبه الطهورية. [منار السبيل: 1/ 9]

8- مرة أخيرة:
لست بصدد مناقشة صحة تطبيق هذه القاعدة من عدمه، وإنما المقصود أنه لا مجال لنفي ذلك عن الأئمة الكبار.
وتصوير ذلك على أنه أمر محدث أو بدعة عصرية هو نوع من المغالطة، وجهل بما كان عليه عمل الأئمة -رحمهم الله-.
فليس الكلام عن صحة تطبيق ذلك من عدمه، وإنما في إبطال الفهم الفاسد بافتراض لوازمَ لم يفترضها أحد منهم، حتى يتسنى له نفيَ هذه القاعدة وإن ثبتت عنهم.

9- ومن يعرض مسائل الخلاف على العامة، بحجة عدم الإنكار والتشديد = هلّا فعل ذلك مع من أخذ بهذه القاعدة اتباعًا للأئمة الأعلام، ولم يتشدد وينكر على الآخِذِ بها، فضلًا عما يقارن ذلك من اللوازم الباطلة.