بيوت هادئة

نهى عزت

  • 92

إنها الرابعة صباحًا قبيل وقت أذان الفجر حسب التوقيت الشتوي، تدق ساعة البيت معلنةً عن يومٍ جديد، عندها يخرج الوالد إلى صلاة الفجر، ومعه من الأبناء من وجبتْ عليهم الجماعة، وتقوم الأم بالمرور على حجرة البنات حتى توقظهن للصلاة لتأدية فريضة الفجر في وقتها..

 بعد أداء الفريضة والانتهاء من قراءة الأذكار وكلٌ في مجلسه، تبدأ خلية نحل عاملة، إنه وقت البكور والبركة، رائحة القهوة تعلن عن استفاقة من نوع خاص للأب الغالي، ومعه إحدى بناته المحبات لهذا النوع من المذاق المُر اللذيذ، تتبادل مع أبيها الضحكات وتحكي له بعض المواقف التي تقابلها في يومها منذ خروجها لجامعتها حتى عودتها لبيتها سالمة، ولا مانع من بعض النصائح النافعة الخفيفة الطيبة من الوالد الغالي متمنيًا لها التوفيق والنجاح.

وهناك على صعيد آخر يتجمع محبو كوب الشاي باللبن باقي الأبناء مع أمهم، يتناولون هذا الكوب الدافئ في هذا الصباح الذي تلفحه نسمات الجو الباردة، مع شطائر من العيش الساخنة محشوة بقطع الجبن السائحة، يتسامرون ويتجاذبون الحديث مع أمهم الحنونة الطيبة، فهذا يستلطفها حتى تحن عليه بزيادة نقدية لمصروفه، وهذا يستدركها بقبلة على وجنتها حتى يخرج منها بثمن البالطو الفخم الذي وقعت عيناه عليه ويريد أن يشتريه وما في جيبه لا يكفيه، أما هذه الفتاة الطيبة ذات العقد الأول من عمرها تنظر لأمها  تستعطفها بنظراتها الطفولية البريئة حتى تشتري لها الألوان الغالية بعض الشيء لتمارس هواية الرسم للمناظر الطبيعية الماتعة، والأم لا حول لها ولا قوة تنفض خزانتها المباركة حتى تقضي طلبات فلذة كبدها.

الكل بعدها يتوجه إلى غرفته من يرتدي ملابسه للخروج، ومن تنظم مكتبها للمذاكرة، ومن يداعب النوم عينيه بكسل لكنه ينفضه حتى ينهي واجباته المتأخرة.

على صعيد آخر في حجرة مقابلة تجلس الأم الغالية بعد أن وزعت وأخرجت ما في خزانتها لأبنائها، تلتفت للوالد الحكيم الذي لا يخرج ما في جيبه إلا بتركيز وإحكام لذا لا يستطيع أحد من الأبناء الاقتراب منه أو الطلب من خزانته التي لا يعلم أحد ما بها، فيتركون له الوالدة فهي من تعلم كيف تدار الأمور وعليه تأخذ بطيب خاطر منه ما تملأ به كيسها العامر بالبركة، لأنها بفضل الله دائمًا شاكرة.

في الثامنة يهدأ البيت كلٌ قد أخذ موضعه من توجه إلى عمله ومن ذهب إلى مجمع علمه، ومع هذا الهدوء التام يعلو صوت المذياع في الخلفية بصوت القارئ الندي المنشاوي وهو يتلو بضع آيات من سورة الكهف {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} فتردد الأم في خشوع وخضوع لله تام "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".

في هذا الوقت تبدأ الأم بتحضير ما عليها من طعام الغداء وما يصاحبه من غسيل وترتيب وإعادة تنظيم، ولا تنسى نفسها من مطالعة بعض الصحف أو تتنقل في هاتفها بين جروبات النساء دعونا نقول الهادفة، أو بعض البرامج المفيدة العابرة، حينها تتذكر أنها لم تُنهي وردها فقد باغتها أبناؤها، وانشغلت معهم فلم تُكمل شحن روحها، حينها تتوجه للوضوء وتجلس في مصلاها خاشعة تؤدي ركعتي الضحى ثم تأتي بوردها كاملًا، فهذا هو النور الذي به تستضيء وبه تكمل يومها، هذا هو عُدتها وعدادها ليوم طويل قد تنسحب فيه طاقتها وينفد فيه صبرها من طلبات الأبناء، ومشاكسة الصغار، وحساب الشهر والماء والكهرباء.. فيستكين قلبها وتهدأ روحها وينزل الله عليها سكينة واطمئنانًا فتكون على يقين وحسن ظن بربها أنه هو من يدبر لها أمرها، ويرزقها وزوجها العون والسداد لمواصلة السير والسداد والتوفيق لإكمال مهمتهما الصعبة الطيبة، فهذا هو إحدى صباحات الأسرة المؤمنة التي يمتلئ بيتها بالتقوى والإيمان والعلم والعمل والجد والكفاح، وتترك رزقها على ربها راضية، مثلها مثل باقي البيوت الهادئة.