ما دام الأمر خاليا من المعصية "لا طاعة لمخلوق
في معصية الخالق"، ولم يكن في الأمر بينات؛ فلا نصٌ محكم من كتاب أو سنة، ولا
إجماع ولا قياس جلي، (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ
مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) (البقرة: 213)، وكان الأمر خلافا
سائغا يسع فيه الاجتهاد، لاسيما لو كان الاجتهاد مبناه على تقدير أعظم المصلحتين وأقل
المفسدتين، وتمت المشورة الجماعية بعد نقاش ونقد وتمحيص لجميع الآراء المحتملة.
فهناك ثلاث مراحل:
1- قبل الشورى :
قد يكون للمرء بمفرده رأي "مبني على قراءة
صحيحة للواقع، واجتهاد حقيقي" يختلف عن الآخرين أو يوافقهم، ويسمى حينها
"رأيفلان" .
2- أثناء الشورى :
تُمزج الأقوال والآراء وتفند وتناقش، وتصهر في
بوتقة العقل الجماعي؛ لينتج في النهاية رأي الجماعة.
3- بعد الشورى:
تنتهي فردية الآراء وتذوب جميعها في قرار الجماعة
حتى لو كان خلاف رأي البعض الذي تبناه قبل حصول الشورى.
بل لو سُئل المرء عن رأيه "ماذا كان قولك
قبل الشورى؟"؛ فلا يجد إجابة إلا قرار المجموع، بل وينسى رأيه الذي كان، وينسى
شخصه ويذوب في الكيان.
بل حتى لو كانت عاقبة قرار المجموع جاءت بغير المتوقع،
أو نتج عنها ما قد يسوء (لخطأ في القرار ذاته، فهم مجرد بشر قد يصيبون أو يخطئون ،
أو لخطأ منفصل عن القرار)؛ لو حدث ذلك فلا يقول من "كان رأيه قبل الشورى بخلاف
ما تم الاتفاق عليه بعد الشورى"، لا يقول : (ألم أقل لكم إن قولي هو الصواب، قد
نصحت وبينت ولكنكم لم تسمعوا لكلامي...)، بل ينسى أنه كان له رأي مخالف لرأي المجموع
يوما ما؛ فقد ذاب قلبا وقالبا في كيان المجموع حتى أصبح نجاحهم نجاحه وخطؤهم خطؤه.
فالواجب هو استفراغ الوسع في إصابة الحق واتخاذ
القرار بآلية سليمة منضبطة شرعا، أما عين إصابة الحق ففيه قوله صلى الله عليه وسلم:
"إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فلهو أجر" (متفق عليه).
فلما خرج قالوا له: يا رسول الله،ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأْمَتَه -وهي الدرع- أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه) (أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (2 / 45)، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع الصغير وزيادته" 2075).
ولما وقعت الهزيمة، لم يعاتبهم صلى الله عليه وسلم أنهم لم ينزلوا على رأيه ، ولم تنزل آية من القرآن تعاتبهم على ذلك، بل كان اللوم والعتاب على معصية منفكة عن القرار الذي اتخذ (وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ) (آل عمران: 152)؛ وأما القرار فقد أدوا ما عليهم وأبرأوا الذمة.