أهم الدلالات لما صدر عن الدكتور ياسر من تصريحات

  • 209

في حوار متلفز مع فضيلة الدكتور ياسر برهامي سُئِل عن حكم تولي غير المسلمين وبالتحديد النصارى للمناصب السيادية في الدولة الإسلامية؛ فأجاب فضيلته بكل وضوح أنه لا يجوز لغير المسلم أن يكون رئيسا في دولة إسلامية، وذلك انطلاقا من قول الله تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) (النساء: 141)؛ ولذا قال أهل العلم إن التولية شقيقة الولاية، وانعقد الإجماع علي وجوب أن يكون الحاكم مسلما؛ لأن وظيفته هي حراسة الدين، وسياسة الدنيا بالدين، وبالطبع لا يتصور أن يكون غير المسلم حارسا علي دين الإسلام، أو أن يسوس الناس به، وهو أمر ليس بمستغرب، فها هي الدول الكافرة ما سمعنا يوما أنها أجازت مسلما أن يترشح لرئاستها بل حسمت دساتيرها، هذا ولم نر لأحد من الذين يثيرون هذه المسائل في بلادنا، اعتراضا عليهم في ذلك ولو ببنت شفة .
 علي كلٍ، أخذت وسائل الإعلام لا سيما الليبرالية والعلمانية كلام الدكتور ياسر وطارت به كل مطار؛ مما جعل الناس منقسمين حول تلك التصريحات ما بين مؤيد ومعترض يري أن المصلحة كانت تقتضي خلاف هذا، مع أن الدكتور ياسر حفظه الله لم يقل هذا في وسائل الإعلام، بل إجابة علي سؤال وجه إليه فأجاب حفظه الله بكل وضوح وصراحة وشفافية كما هي عادته فنحسبه والله حسيبه، وامتثالا لقوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) (آل عمران: 187).


وأنا هنا لست بصدد الكلام عن التأييد والاعتراض، لكنني أذكر هنا أهم دلالات هذا الكلام، وهي من وجهة نظري ما يلي:


أن هذا الكلام من الدكتور ياسر وفي هذا التوقيت وبهذا الوضوح هو أقوي رد علي الذين يزعمون أن الدعوة السلفية بدأت في تقديم التنازلات لتتخلي عن الثوابت بعد أن طرقت أبواب العمل السياسي فراحت تحذو حذو الإخوان،
ونسي أولئك أنه شتان بين من كانت مواقفه ومنطلقاته ناتجة عن منهج سلفي واضح المعالم، فهو يفرق بين الثوابت والمتغيرات وما يقبل المرونة وما لا يقبلها، فهو ينضبط في كل مواقفه بضوابط هذا المنهج وقواعده، وبين من كان منطلقه الرأي والاستحسان علي حساب الشريعة وقواعدها، فهو يجمد في مواضع المرونة ويسيل في ما لا يقبل تنازلا ولا تمييعا، فصاحب المنهج السلفي يمضي في طريقه بكل ثبات، وإن بدر منه في بعض المواقف ما يتوهمه البعض تنازلا، وهو في الحقيقة ليس كذلك؛ بل إعمالا للمنهج كمن يأكل لحمة الميتة مضطرا، فهو يفعل هذا استجابة لشرع حيث يقول تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (البقرة: 173)، مع حرصه علي أن تقدر الضرورة بقدرها؛ فالأمر عنده من باب الرخصة فلا يستوي هذا بمن جعل هذا أصلا استحسانا لرأي أو اتباعا لهوى، ومن يراعي تحقيق المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها، ويرتكب أخف الضررين من باب دفع المفسدة الكبرى بارتكاب أدناهما مراعيا ضوابط الشريعة في ذلك متبعا للقرآن حيث قال تعالى ( وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُون اللَّه فَيَسُبُّوا اللَّه عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام: 108)، متبعًا لهدي النبي العدنان -صلى الله عليه وسلم- في عدم قتله للمنافقين، حتى لا يتحدث الناس أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- يقتل أصحابه، وعقده للصلح بشروط مجحفة في الحديبية لأن المصلحة كانت تقتضي ذلك، فهو ملتزم إذا بالمنهج متأسيا بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، بخلاف من يرتكب بعض المخالفات زاعما أن هذا من باب مصلحة الدعوة مع أن الواقع يثبت عكس زعمه، فهو ما فعل ذلك إلا من باب الاستحسان والهوى، ومن يبيع أو يشتري من كافر أو يجلس معه لمصلحة تقتضي ذلك انطلاقا من ضوابط الشريعة وسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- العملية، والتي لا تمنع ذلك ولا تجعله من الموالاة الممنوعة ؛ فهو منضبط بضوابط المنهج؛ ولذا يُمتَنع عن تهنئة الكفار في أعيادهم أو التشبه بهم؛ لأن هذا من الممنوع، بخلاف من يفعل عكس ذلك فيجعل الجلوس أو البيع والشراء أمرا ممنوعا بالنسبة لغيره لا له، في حين يري التشبه وتهنئتهم وغير ذلك أمرا مشروعا، فالأول معظم للمنهج ينضبط بضوابط إقدامه وإحجامه بإذن من الشريعة، والثاني دائر مع الهوى والرأي، منفلت الزمام لبعده عن المنهج وتحرره من قيوده، والذي يفرق بين الحكم والفتوى فيعلن الحكم واضحا جليا لأنه ثابت لا يتغير، ثم هو يراعي الواقع، والذي قد يقتضي خلاف الحكم من باب الفتوى، والتي تتغير بتغير الأحوال والأشخاص والأزمان والأمكنة، كما ذكر ذلك الإمام ابن القيم تفصيلا؛ فقطع اليد للسارق حكم ثابت بشروطه، ولكن قد لا يُطبق في بعض الأوقات لتخلف شرط أو وجود مانع، بل قد يُنهي عنه لمفسدة أكبر ستترتب عليه، بينما نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قطع اليد في الغزو والأمر بالمعروف واجب شرعي، وكذا النهي عن المنكر، ولكن قد يكون المنع أحيانا منه هو المشروع إذا كان سيترتب علي تغيير المنكر منكر أكبر ومفسدة أعظم، فهل يستوي من يمضي في طريقه منضبطا بهذه الضوابط الشرعية ملتزما بهذه المعالم المنهجية، فهو أسير في يدي الشريعة يدور معها حيث دارت به ركائبها؟ هل يستوي من هذا حاله بمن لا يقيم لذلك وزنا ولم يرفع بهذا رأسا؟!
لقد جاءت تصريحات الدكتور ياسر لتؤكد للناس أننا ننضبط بمنهج، لا نقول إلا ما نعتقد، ولا نفعل إلا ما ندين لله به، ونفرق بين ما يُقبل فيه المرونة، وما لا تقبل فيه؛ فلا نقيم الدنيا ولا نقعدها في أمور تقبل الاجتهاد ويسع فيها الخلاف، ثم نتساهل غاية التساهل في أمور عقدية لا تتحمل إلا وجها واحدا ولا يسع فيها الخلاف .

 
إن البعض -للأسف- ينكر علينا أحيانا أمورا ليست محلا للإنكار، بل هي مقتضي إعمال القواعد الشرعية، والأصول المرعية، والثوابت المنهجية، ونحن بفضل الله عز وجل لن يفت في عضدنا تشغيب المشغبين، ولا سهام المغرضين، ما دمنا نبذل الوسع في أقوالنا وأفعالنا؛ لتنضبط بضوابط منهجنا السلفي، والمطلوب من الجميع أن يتعرفوا علي معالم هذا المنهج وقواعده وتفصيلاته؛ ليمَيِّزوا بين من ينضبط بها ويحرص عليها، ويتحرك في إطارها، وبين من يخالف ذلك كله لاختلال عنده في الفهم، وانحراف في الفكر والمنهج.
اسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الهداية إلي الحق، والتوفيق لإصابته واتباعه! إنه ولي ذلك والقادر عليه .