الاعتكاف والأنس بالله

  • 194

قد ذكر الله الاعتكاف في القرآن العظيم، فقال -سبحانه وتعالى-: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].

 ومعنى الاعتكاف، هو: لزوم المسجد لطاعة الله -تعالى-، وقد حافظ عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعن عائشة -رضي الله عنها-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ "[ متفق عليه، أخرجه البخاري: 2026، ومسلم: 1172واللفظ له]

و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ:" كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ العَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا" [أخرجه البخاري: 2044]، والاعتكاف من الشرائع القديمة أيضًا، قال الله -تعالى-: { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]، وهذا يدل على فضل الاعتكاف؛ لأن الله أمر إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- بهذا التطهير؛ لأجل هؤلاء، وكذلك اقترانه مع الطواف والصلاة -وقد عُرف فضلهما-.

وما أروع ما قاله الزهري -رحمه الله-: "عجبًا للمسلمين تركوا الاعتكاف مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم-ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله -عز وجل-!" [أورده ابن بطال في شرحه صحيح البخاري وعزاه إلى ابن المنذر: 4/ 181].

الاعتكاف: تدبر وتلاوة، لذة وحلاوة، ينصرف الناس إلى بيوتهم بعد صلاة التراويح كل واحد يخلو بزوجه، والمعتكف يخلو بالله -تعالى-.

الاعتكاف: زيادة في الإيمان، واقتراب من الواحد الديان، المعتكف قلبه معلق بالمسجد، يذكر الله خاليًا؛ فتفيض عيناه بالدموع، فمن أراد زيادة الإيمان والقرب من الرحمن؛ فعليه بالاعتكاف، من أراد القيام بالليل والناس نيام؛ فعليه بالاعتكاف.

الاعتكاف: جنة من الجنان؛ لأنك تجد فيها لذة الأنس بالله -تعالى-، في الاعتكاف تسمو الروح وتصفو النفس.

الاعتكاف هو: انفطام النفوس عن رضاع الهوى، وَقَالَ عَطَاءٌ: مَثَلُ الْمُعْتَكِفِ كَمَثَلِ رَجُلٍ لَهُ حَاجَةٌ إلَى عَظِيمٍ فَيَجْلِسُ عَلَى بَابِهِ، وَيَقُولُ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى تَقْضِيَ حَاجَتِي وَالْمُعْتَكِفُ يَجْلِسُ فِي بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَقُولُ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى يَغْفِرَ لِي فَهُوَ أَشْرَفُ الْأَعْمَالِ إذَا كَانَ عَنْ إخْلَاصٍ" [أورده السرخسي في المبسوط: 3/ 115].

  قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-في لطائف المعارف [لطائف المعارف لابن رجب: صـ 190، 191]: "وإنما كان النبي -صلى الله عليه وسلم-، يعتكف في العشر قطعًا لأشغاله، وتفريغًا لباله، وتخليًا لمناجاة ربه وذكره ودعائه، وكان يحتجر حصيرًا يتخلى فيها من الناس"؛ ولهذا ذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس، ولا حتى لتعليم علم أو إقراء قرآن؛ بل الأفضل له الانفراد بنفسه، وهو الخلوة الشرعية لهذه الأمة، وإنما كان في المساجد؛ لأنه لا يترك به الجمعة والجماعات، كان بعضهم لا يزال منفردًا في بيته خاليًا بربه، فقيل له: أما تستوحش؟ قال: كيف استوحش وهو يقول: " أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي "[أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: 1/ 108]. وكان داود الطائي يقول في ليله: "اللَّهُمَّ هَمَّكَ عَطَّلَ عَلَيَّ الْهُمُومَ، وَحَالَفَ بَيْنِي وَبَيْنَ السُّهَادِ، وَشَوْقِي إِلَى النَّظَرِ إِلَيْكَ أَشْوَقُ مِنِّي، وَحَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّذَّاتِ، فَأَنَا فِي سِجْنِكَ أَيُّهَا الْكَرِيمُ مَطْلُوبٌ» "[أخرجه ابن أبي الدنيا في الهم والحزن: صـ 91].

الاعتكاف هو: إخلاءٌ للقلب من الشواغل عن ذكر الله، والتفرغ لعبادة الله بالتفكر والدعاء، والذكر والاستغفار، وقراءة القرآن والصلاة، والتوبة والانكسار.

فهنيئًا للمعتكفين!

فقد أقبلت أيام اللقاء... أيام الصفاء... أيام الحنين...

أقبلت أيام الاعتكاف؛ فحنت لها قلوب المحبين.

فجديرٌ بنا أن نتنبه؛ حتى لا نندم بعد فوات الفرصة العظيمة من بين أيدينا، سنعض أصابع الندم عضًا شديدًا، إن نحن فرطنا في هذه الأيام التي نحن فيها، والليالي التي نحن نتفيأ ظلالها، ونستنير بأنوارها، ونترقب فيها ليلة القدر العظيمة، والله المستعان.