الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فشهر "ذي القعدة" أحد أشهر الحج، وكذلك أحد الأشهر الحرم
الأربعة، قال الله -تعالى-: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ) (البقرة:197)، (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ
عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (التوبة:36)، وقال النبي -صلى الله
عليه وسلم-: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ
حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ،
وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ شَهْرُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ) (متفق عليه).
وهو المعني في قوله -تعالى-: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى?
ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (الأعراف:142). فالثلاثون ليلة هي:
شهر ذي القعدة، والعشر هي: العشر الأول مِن ذي الحجة، وقد كان بعض الصحابة كعبد
الله بن عمر -رضي الله عنهما- يصوم الأشهر الحرم، وورد في الأثر -وإن كان به ضعف-:
"صُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ".
وتتأكد الطاعات والسنن في هذه الأيام، وكذلك يغلظ ويفحش الذنب ويعظم
عند الله في هذه الأيام، فالله -عز وجل- نهى عن الظلم فيها خصوصًا، قال الله
-تعالى-: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) (التوبة:36)، فينبغي تجديد التوبة،
وترك الذنوب والمعاصي، ومراعاة حرمة الزمان، قال الله -تعالى-: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ
شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج:32).
- وشهر "ذي القعدة" حدثتْ فيه غزوة "بني قريظة" في
العام الخامس مِن الهجرة عقب غزوة "الأحزاب" مباشرة؛ بسبب خيانة اليهود
ونقضهم العهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -تعالى-: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا
عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (البقرة:100)، فقتلتْ مقاتلتهم
وكانوا قرابة ستمائة، وسبيت نساؤهم وذراريهم، وغنمت أموالهم.
- وحدث في هذا الشهر "حصار الطائف" في العام الثامن مِن الهجرة؛ فلما استعصت على النبي
-صلى الله عليه وسلم- شهرًا؛ ضربهم بالمنجنيق، وهو ما يعم به الهلاك -فلا يقصد
النساء والصبيان-، وكذلك لا يمكن التمييز بينهم وبيْن الرجال المحاربين.
- وكذلك حدث في هذا الشهر "صلح الحديبية" في العام السادس مِن
الهجرة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قادم للعمرة مع 1400 مِن الصحابة،
فأرسل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- لقريشٍ، فشاع خبر مقتل عثمان؛ فبايعه 1400 تحت
الشجرة على الموت، وسميتْ "بيعة الرضوان"، ونزل فيها "سورة
الفتح"، ثم تبيَّن عدم مقتل عثمان؛ فراسلت قريش رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- بمكرز بن حفص، وعروة بن مسعود، وسهيل بن عمرو.
وحدثتْ مفاوضات على أن يتم الصلح عشر سنين، ويتحلل النبي -صلى الله
عليه وسلم- مِن إحرامه هذا العام، ويرجع ويعود لعمرة القضية في العام القادم، وتم التوافق على بعض
الشروط الجائرة؛ منها: مَن أتى مِن قريشٍ مسلمًا يرده النبي -صلى الله عليه وسلم-؛
فرد النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا جندل وأبا بصير.
ولهذا الصلح فوائد ودروس عظيمة ذكرها ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "زاد المعاد"، وهو درس عظيم في السياسة الشرعية، وفقه المآلات، والمصالح والمفاسد، وبُعد النظر، وعدم الانجرار وراء العاطفة، والتسرع، وأحكام كثيرة في المعاهدات والاتفاقيات.