الحمد
لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على تعليم أصحابه ألفاظ القرآن ومعانيه، فقد
قال له ربُه: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)
(النحل:44)، وجعل القرآنُ مِن مهامه -صلى الله
عليه وسلم-: "تعليم الكتاب والحكمة"، وهذا في أربع آيات مِن القرآن
العظيم، ولا ريب أن هذا التعليم فوق (التحفيظ) بدليل أنه معطوف على تلاوة الآيات
عليهم: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (آل عمران:164)، فالتعليم أخص مِن التلاوة.
إن
هذا التعلم والتعليم هو الذي عَبَّرتْ عنه بعضُ الأحاديث بـ(التدارس)، ففي صحيح
مسلم عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (وَمَا
اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ
وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ،
وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ
فِيمَنْ عِنْدَهُ).
ومعنى تدارس القرآن:
التعرف على ألفاظه ومبانيه، وعلى مفاهيمه ومعانيه، وما يرشد إليه مِن العِبَر، وما
يدل عليه مِن الأحكام والآداب.
وقيل مدارسة القرآن:
القراءة والفهم، والتدبر والتبيُّن لسنن الله في النفس والآفاق، ومعرفة الوصايا
والأحكام، وأنواع الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وما إلى ذلك مما يحتاج
المسلمون إليه.
ويقول ابن تيمية -رحمه الله-: "يجب أن يُعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم-
بيَّن لأصحابه معاني القرآن، كما بيَّن لهم ألفاظه، فقوله -تعالى-: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) يتناول
هذا وهذا. وقد قال أبو عبد الرحمن السُّلَمي: "حدثنا الذين كانوا يقرئوننا
القرآن: كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما: أنهم كانوا إذا تعلموا منه -صلى
الله عليه وسلم- عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها مِن العلم والعمل؛
قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا"؛ ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ
السورة. وقال أنس -رضي الله عنه-: "كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلَّ
في أعيننا، وذلك أن الله -تعالى- قال: (كِتَابٌ
أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) (ص:29)، وقال: (أَفَلاَ
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) (النساء:82)، وقال: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا
الْقَوْلَ) (المؤمنون:68)، وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا
يمكن! وكذلك قال -تعالى-: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا
عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف:2)، وعقل الكلام متضمن لفهمه، ومِن المعلوم أن كل كلام
فالمقصود منه: فهم معانيه دون مجرد ألفاظه؛ فالقرآن أولى بذلك، ولهذا كان النزاع
بيْن الصحابة في تفسير القرآن قليلاً جدًّا".
فإذا طرأ ما يمنع رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- مِن مباشرة ذلك بنفسه؛
وكَّل بعض أصحابه للقيام بهذه المهمة، ومِن هذا ما ورد عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال:
"كان إذا قَدِمَ مهاجرٌ على رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- دفعه إلى رجل
منّا يُعلمه القرآنَ"، وعن أبي موسى -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- بعث معاذًا وأبا موسى إلى اليمن، فأمرهما أن يُعَلِما الناسَ القرآنَ".
ومِن
هنا نقول بأنه -صلى الله عليه وسلم- كان حريصًا على تعليم أصحابه القرآن؛ لفظًا
ومعنى.
وللحديث
بقية -إن شاء الله-.