(مَا ‌يَفْتَحِ ‌اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا)

  • 75

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قال الله سبحانه وبحمده: (مَا ‌يَفْتَحِ ‌اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (فاطر: 2). 

قال ابن كثير رحمه الله: "يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ".

وقال الإمام مالك: "كان أبو هريرة إذا مطروا يقول: مطرنا بنوء الفتح، ثم يقرأ هذه الآية: (مَا ‌يَفْتَحِ ‌اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). ورواه ابن أبي حاتم، عن يونس عن ابن وهب، عنه. ومعنى "بنوء الفتح" أي: أن سبب نزول المطر ما يفتح الله تعالى به من رحمته وفضله على عباده، قال أبو عمر في التمهيد: "وهذا عندي نحو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم مطرنا بفضل الله وبرحمته".

قال الشنقيطي رحمه الله بأضواء البيان: "وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحًا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: (‌وَإِنْ ‌يَمْسَسْكَ ‌اللَّهُ ‌بِضُرٍّ ‌فَلَا ‌كَاشِفَ ‌لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ) (يونس: 107)، وقوله تعالى: (‌قُلْ ‌فَمَنْ ‌يَمْلِكُ ‌لَكُمْ ‌مِنَ ‌اللَّهِ ‌شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا) (الفتح: 11)، وقوله تعالى: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي ‌يَعْصِمُكُمْ ‌مِنَ ‌اللَّهِ ‌إِنْ ‌أَرَادَ ‌بِكُمْ ‌سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً) (الأحزاب: 17)، إلى غير ذلك من الآيات" (انتهى)، وكان صلى الله عليه وسلم يقول بعد رفعه من الركوع وبعد الانصراف من صلاته: "اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الجَدّ مِنْكَ الجَد" (ينظر تفسير ابن كثير رحمه الله).

فتعلم وتوقن أن الأمر كله بيده، وأنه تعالى العزيز القدير، وهو سبحانه غالب على أمره، وأن الخلق لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا؛ فضلًا عن أن يملكوا ذلك لغيرهم، فلا ترجوا العطاء إلا منه، ولا تخشى المنع إلا منه؛ فإنه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وأن الناس أسباب لوصول الخير إليك بإذن الله، وتيسيره وتوفيقه، وليس معنى ذلك ترك شكرهم إن هم أحسنوا إليك أو ساعدوك أو شفعوا لك لوصول الخير إليك، بل كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يَشْكُرُ اللهَ مَن لا يَشْكُرُ الناسَ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

وفي هذا حث وتعليم منه صلى الله عليه وسلم على شكر مَن أحسن إليك لوصول نعمة الله على يديه في ذلك من حسن الخلق وحفظ المعروف لأهله، وتشجيع الغير على الإحسان، وفيه تنبيه لطيف، والله أعلم أنك إذا شكرت من تسبب في وصول النعمة والخير إليك؛ فكيف بشكر المنعم على الحقيقة الكريم سبحانه وبحمده الذي تفضل وأنعم عليك بالنعمة؟!  

وقوله: (مِنْ رَحْمَةٍ) نكرة في سياق الشرط فهو يفيد كل رحمات الدنيا والآخرة من التوبة، والهداية والتوفيق، والرزق والمطر، والصحة والعلم والأمن، وغير ذلك، وما ورد عن السلف: كابن عباس رضي الله عنهما وغيره من تعيين الرحمة، هو من باب ضرب المثال على الرحمة وليس القصر.

وقوله: (الْحَكِيمُ) فيها تطمين العبد وتهيئته للرضا بقضاء الله وقدره، ومنعه وعطائه، فكل ذلك وفقًا لما تقتضيه حكمته سبحانه وبحمده وهو تعالى كما قال: (‌كُتِبَ ‌عَلَيْكُمُ ‌الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 216).

لذلك كثيرًا ما يُقرن بين العلم والحكمة في خواتيم الآيات؛ لا سيما المتعلقة بالأحكام لتثمر تسليم العباد وخضوعهم وقبولهم لأوامره تعالى ونواهيه، فسبحان مَن منعه عطاء، وهو الحكيم الحميد، والله أعلم.

وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.