حرب العاشر من رمضان السادس - من أكتوبر كأنك تراها (11)

  • 64

يوم الأحد 18 رمضان - 14 أكتوبر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فبعد مضي نصف قرن هجري من الزمان على حرب العاشر من رمضان 1393 إلى رمضان 1443 هـ - السادس من أكتوبر، رَحَل -أو يكاد- مَن حضروا هذه الحرب أو عاصروها؛ فلزم علينا أن نذكِّر الأجيال الجديدة بهذه الحرب المجيدة، وما قدَّم المصريون فيها مِن تضحياتٍ، وما بذلوه من جدٍّ واجتهاد في قوة تحمُّل وصبر، وإخلاص وصدق حقَّقوا به مجدًا كبيرًا في ظروف أسوأ وأصعب بكثيرٍ مِن الظروف التي نعاني منها حاليًا؛ إنها روح العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر التي نفتقدها الآن، ونحن أحوج ما نكون إليها.

شهد اليوم الثامن من القتال يوم الأحد 18 رمضان - 14 أكتوبر حدثين كبيرين، وهما: عملية تطوير الهجوم المصري في سيناء، وانتصار الطيران المصري في معركة المنصورة الجوية.

تطوير الهجوم المصري:

كان قرار تطوير الهجوم المصري في 14 أكتوبر قرارًا سياسيًّا اتخذته القيادة السياسية في مصر بغرض تخفيف الضغط على القوات السورية في الجولان بزيادة العمليات العسكرية في سيناء بناءً على طلب القيادة السورية.

كان هناك اختلاف في وجهات النظر في يومي: 9 و10 أكتوبر حول مواصلة تقدُّم قواتنا في عمق سيناء بعد تحقيق الهدف الإستراتيجي من الحرب، وهو عبور قناة السويس وتحطيم خط بارليف، والتوغل لمسافة نحو 15 كيلو متر شرق القناة، وهي المسافة التي يمكن لحائط صواريخ الدفاع الجوي المصري أن يحمي فيها قواتنا البرية، أما بعدها فتفتقد قواتنا هذا الغطاء الجوي في مواجهة طيران العدو.

 كانت الخطة الأساسية تقوم على القيام بوقفة تعبوية بعد تحقيق هذا الهدف الإستراتيجي، والنظر في الخطوة التالية تبعًا لتطورات الأوضاع وأحوال العدو. وقد رأى البعض أن تواصل قواتنا تقدمها في يومي: 9 أو 10 أكتوبر استغلالًا للحالة السيئة والارتباك الشديد الذي كانت عليه قوات العدو، وبالتالي الوصول إلى خط المضايق في عمق سيناء والاستيلاء عليه، ومِن ثَمَّ إجبار العدو إلى تراجع دفاعاته خلفها، بينما رأى أصحاب وجهة النظر الأخرى أنها مغامرة يخشى عواقبها في ظل التفوق الجوي للعدو، والذي يجعل قواتنا البرية وهي خارج غطاء دفاعنا الجوي فريسة سهلة لطيران العدو.           

ولكن مع الوصول إلى يوم 14 أكتوبر -أي: بعد خمسة أيام- كانت الأوضاع قد تغيَّرت كثيرًا حتى أمام مَن تبنوا وجهة تطوير الهجوم في 9 أو 10 أكتوبر، فالعدو تمكن مِن تثبيت أوضاعه في الجولان، وبالتالي أصبح متفرغًا للتركيز أكثر والتوسع في التخطيط على الجبهة المصرية، وهو ما تجلَّى بالفعل في التخطيط لإحداث ثغرة في الجيش المصري، كما أن الجسر الجوي الأمريكي لتعويض العدو عن خسائره في الحرب للعدو بدأ وظهرت آثاره في سيناء، حيث دفعت إسرائيل بكل ما لديها من احتياطي بلا تحفظ، وقد تأكدت من موافقة أمريكا على إمدادها بكل ما تحتاجه من سلاح وزيادة.

وبدأت بالفعل في تجهيز وتنفيذ الجسر الجوي والبحري، فكانت المدرعات والمعدات وأحدث الصواريخ والأسلحة الأمريكية تُنقَل إلى قلب ساحة المعارك مباشرة عن طريق ميناء العريش في شمال سيناء، وكان فيها طائرات حديثة ودبابات حديثة بأطقمها من اليهود الأمريكان والمرتزقة الذين توافدوا تباعًا لنجدة وإنقاذ الكيان الصهيوني من هزيمة بدت قريبة وساحقة، ولتعويض كل ما فقدته إسرائيل من معدات وأفراد في أيام القتال السابقة، ولضمان تفوقها في العدد والعدة على القوات المصرية في سيناء؛ كل هذا كان يوجب على الجيش المصري التركيز على النواحي الدفاعية للتصدي لمخططات العدو المنتظرة وعملياته العسكرية الجديدة المتوقعة؛ لا أن يغامر بتطوير الهجوم وبدون غطاء جوي كافٍ على عدو متفوق عليه في العدة والعتاد.

أما أصحاب وجهة النظر الرافضة لتطوير الهجوم، وفي مقدمتهم: الفريق الشاذلي صاحب خطة العبور والحرب؛ فقد كانوا أشد معارضة لقرار التطوير، ولكن لم يكن من تنفيذ قرار القيادة السياسية بد، وكان الفريق الشاذلي وهو يضع خطة الحرب وسيناريوهاتها يخشى تمامًا تخطي وتعدي مسافة الخمسة عشر كيلو متر شرق سيناء التي تكون فيها حماية الدفاع الجوي لقواتنا البرية مفعلة، وقد بنى خطة الحرب كلها على ذلك. 

وبناءً على أوامر تطوير الهجوم شرقًا هاجمت القوات المصرية في قطاع الجيش الثالث الميداني في اتجاه السويس بلواءين، هما: اللواء الحادي عشر مشاة ميكانيكي في اتجاه ممر الجدي، واللواء الثالث المدرع في اتجاه ممر متلا. وفي قطاع الجيش الثاني الميداني اتجاه الإسماعيلية هاجمت الفرقة 21 المدرعة في اتجاه منطقة الطاسة، وعلى المحور الشمالي لسيناء هاجم اللواء 15 مدرع في اتجاه رمانة.

خطة الهجوم المصري العاجلة:

ذكر العميد أركان حرب عادل يسري -الحائز على وسام نجمة سيناء من الطبقة الأولى-: "أن الخطة المصرية كانت تركِّز على أن يقوم الجيش الثالث بدفع مفارز -جمع مفروزة: أي مقدمة- قوية من الدبابات والمشاة الميكانيكية من فجر يوم 14 أكتوبر بعد قصفة جوية ضد الأهداف المهمة في سيناء، وبعد تمهيد مدفعي لمدة 15 دقيقة بأكثر من 500 مدفع من أنواع مختلفة، ثم ضربة صواريخ أرض / أرض متوسطة المدى ضد مراكز الإعاقة الإلكترونية، ومراكز القيادة والسيطرة للعدو، ثم يبدأ الهجوم المصري الساعة السادسة النصف صباحًا على النحو التالي:  

أ- يدفع الجيش الثالث مفروزتين:

الأولى: بقوة مدرع مدعم بكتيبة مشاة في اتجاه ممر متلا الجبلي، والثانية: بقوة لواء ميكانيكي في اتجاه ممر الجدي الجبلي.

 ب- ويدفع الجيش الثاني الفرقة 21 المدرعة -عداء لواء- بقوة لواءين مدرعين في اتجاه الطاسة، واللواء المدرع في اتجه المحور الشمالي" (رحلة الساق المعلقة من رأس العش إلى رأس الكوبري، ط. الهيئة المصرية للكتاب عام 1978 م، ص 241 - 244).

 وكانت الأهداف الرئيسية من هذا القرار، هي:

1- تخفيف الضغط عن سوريا واجتذاب الاحتياطات الإسرائيلية.

2- تدمير جزء كبير من الاحتياطات التعبوية الإسرائيلية.

 3- الوصول إلى المخارج الغربية لخط المضايق في سيناء على بعد 30 - 40 كم من القناة، وبالتالي حرمان العدو من المناورة على المحور العرضي غرب المضايق الذي يناور عليه باحتياطاته لتوجيه هجماته المضادة ضد رءوس الشواطئ (أي: رؤوس الكباري).

مخاطر الخطة المصرية:

ولكن كان لهذه الخطة المصرية عدة مخاطر تتركز في:

أولًا: الخروج من تحت سقف الدفاع الجوي غرب القناة، وتعرض احتياطياتنا المدرعة لتأثير الطيران الإسرائيلي، (وبرغم عِلْم القيادة المصرية بالقاعدة الإستراتيجية التي تحدد أن مَن يدفع احتياطه الإستراتيجي قبل خصمه، فإنه يكون مهددًا بفقدان أهم مبادئ الحرب وهو المبادأة، أي: القدرة على الاستمرار في الهجوم وإجبار العدو على التحرك لمقابلة أعماله؛ إلا أن القيادة المصرية قررت دفع الجزء الأكبر من احتياطيها مبكرا، وفي وقت لا يحسم المعركة، حتى تخفف الضغط عن سوريا وتجتذب الاحتياطيات الإسرائيلية في اتجاه الجبهة المصرية) (المصدر السابق، ص240 - 241).    

ثانيًا: عدم اشتراك المشاة في هذه المرحلة وبقاؤهم في رؤوس الكباري على الضفة الشرقية ضمانا لاتزان القوات المسلحة، وبالتالي عدم تطهير الأرض من الكمائن، كمائن الصواريخ المضادة للدبابات والألغام.

ثالثًا: عدم اكتمال معلومات الاستطلاع عن العدو والأرض، وتجهيزات العدو الهندسية الأخيرة التي أعدها لملاقاة الهجمة المضادة، كما أن توقيت بدء الهجوم كان في وقت تكون الشمس فيه في مواجهة قواتنا بزاوية تجعل من الصعب رؤية العدو واستخدام أجهزة التنشين بصورة سليمة (انظر المصدر السابق، ص 242).

خطة العدو الدفاعية:

شعرت القيادة الإسرائيلية بنية هجوم قواتنا وتحققت منها، ووضعت الخطة المضادة ورفعت درجة استعداد قواتها في جبهة سيناء اعتبارًا من الساعة ثلاثين دقيقة بعد منتصف الليلة 13/ 14 أكتوبر، أي: كانت على استعداد قبل بدء هجومنا بست ساعات، وتم دفع الصواريخ المضادة للدبابات والطائرات والمدفعية، فكان للعدو أكثر من 900 دبابة في مقابل حوالي 300 دبابة لنا عند تطوير الهجوم، أي: أن المقارنة كانت لصالح العدو ثلاثة إلى واحد هذا في الدبابات فقط، وهي نسبة لا تسمح بالهجوم؛ بالإضافة إلى الصواريخ الإسرائيلية المضادة للدبابات.

كانت خطة الدفاع الإسرائيلية تعتمد على:

أ- تجهيز خطوط دفاعية مجهزة هندسيا أمامها حقول ألغام، وتعتمد على مواقع أسلحة مضادة لدبابات قوية (صواريخ أ س / أ س / 11)، وصواريخ أمريكية وكمائن دبابات في حفر مجهزة، مع وجود احتياطيات دبابات قوية للمناورة بها في اتجاه هجومنا بعد إيقافه، وهو نوع من الدفاع الأمريكي يسمى الدفاع المتحرك، الذي يدفع العدو بعد اجتذابه إلى أرض تسمَّى (أرض القتل) لتدميره.  

ب- تجهيز بعض الطائرات الهليكوبتر الإسرائيلية بصواريخ (أس / أس / 11) لتدمير مدرعاتنا من الجو.

ج- تجهيز قاذفاته المقاتلة الفانتوم والسكاي هوك، والمقاتلات الميراج بصواريخ لاصقة، وقنابل ضد الدروع.

د- خطط العدو نيران المدفعية الثقيلة 175 مم بعيدة المدى (حوالي 32 كيلو مترًا) على مواقع صواريخنا المضادة للطائرات لإسكاتها عند بدء هجومنا.

ظهر التباين في صفوف قواتنا فقوات منها حققت اختراقات عميقة وتقهقر العدو أمامها، وقوات أخرى تعثرت في الهجوم عند اصطدامها بالعدو وتوقفت أمامه، فأكبر النجاحات كانت للجيش الثالث في اتجاه محور (متلا)، وللجيش الثاني في شرق الفردان.

أما قمة التعثر فكانت في تجاه محور جنوب الإسماعيلية بسبب قرار بدفع الفرقة 21 المدرعة من الغرب إلى الشرق على خلاف المهمة المكلفة بها مسبقًا في خطة الحرب، أي: من الواجب بالدفاع مع الفرقة الرابعة إلى واجب هجومي تم بصورة عاجلة، وقد فاجأت نيران كثيفة من مدفعية العدو أحد ألوية الفرقة، فأصابت مركز قيادة اللواء ليستشهد قائد اللواء ومعظم ضباط مركز القيادة، وبالتالي فقدت السيطرة على اللواء؛ مما أثر على الفرقة 21 بأكملها في المعركة.

وقد شهد هذا اليوم طلعات جوية للعدو أضعاف الطلعات الجوية على سوريا لمواجهة لإيقاف تقدم الهجوم المصري، وقد زاد من تأثيره بعد طلعاته عن الغطاء الجوي لصواريخ الدفاع الجوي، كما دفع العدو بأعداد كبيرة من قواته الاحتياطية لصد الهجوم المصري، ورغم أن خسائر قواتنا كانت كبيرة خاصة في الدبابات والتي بلغت 250 دبابة، ورغم نجاح العدو في صد الهجوم المصري؛ فقد كانت خسائر العدو أفدح من خسائرنا.

سير المعركة:

بعد ضربة الطيران المصري الساعة السادسة والربع صباحًا، وتمهيد المدفعية لمدة خمس عشرة دقيقة وضربة الصواريخ أرض / أرض متوسطة المدى، اندفعت المفارز المدرعة المصرية، وقد وجهت بمقاومة عنيفة جدًّا من العدو، اشترك فيها طيرانه ومدفعيته وصواريخه المضادة للدبابات وبالدبابات، وبالرغم أن الخسائر كانت كبيرة في الجانبين وبرغم مقاومة العدو الشديدة؛ فقد استمرت قواتنا في القتال باستبسال وإصرار على التقدم واكتساب الأرض، وتدمير قوات العدو، وكان القادة كالعادة على رأس القوات فاستشهد اثنان من قادة الألوية المدرعة في هذا اليوم، بينما أصيب اللواء سعد مأمون قائد الجيش الثاني بأزمة صحية من شدة المعارك وخسائرها نقل بعدها إلى مستشفى المعادي العسكري.

وقامت خلال هذا اليوم معارك جوية رهيبة سقطت فيها حوالي 15 طائرة فانتوم للعدو، وسقطت لنا 9 طائرات ميج 21 (راجع المصدر السابق، ص 244).

قبل أن ينتهي يوم 14 أكتوبر، وبعد تقدير القيادة العسكرية المصرية للموقف كان اتخاذ القرار الصائب والحرج في نفس الوقت بعودة القوات المصرية التي استأنفت الهجوم صباحًا إلى أوضاعها السابقة قبل الهجوم؛ لقد (تأكدت القيادة المصرية في نهاية اليوم عدم جدوى الاستمرار في الهجوم)، وهو ما كان الفريق الشاذلي رئيس الأركان قد توقعه، (كما أن المعلومات توفرت عن تحريك العدو لأغلب احتياطاته في اتجاه الجبهة المصرية)، وهذا ما كان يهدف إليه التخطيط المصري لتخفيف الضغط على سوريا.

قال العميد عادل يسري: (بنجاح العدو في إيقاف هجومنا في هذا اليوم تمسكت قواتنا بالخطوط الجديدة المكتسبة، وتم سحب وحداتنا المدرعة مرة أخرى إلى داخل رؤوس الشواطئ لإعادة التجميع) (المصدر السابق، ص 245).  

وأضاف: (واعتبارًا من ليلة 15/ 16 أكتوبر بدأت إسرائيل في ممارسة المبادأة والعمل الهجومي بدفع عناصر ومفارز للضفة الغربية لقناة السويس، مع التركيز الرهيب بكل إمكانيات إسرائيل على فرقة واحدة فقط هي الفرقة 16 المشاة لإزالتها وتدميرها، لتأمين عملية عبور قناة السويس من الشرق للغرب. فقد قررت إسرائيل تنفيذ الثغرة مهما كلفتها من تضحيات؛ لأنها الجزء الباقي لها لمحاولة استعادة هيبتها إعلاميًّا ونفسيًّا) (المصدر السابق، ص 245).

معركة المنصورة الجوية:

هي واحدة من أكبر ست معارك جوية في التاريخ العسكري الحديث، وهي أكبر معركة جوية بعد الحرب العالمية الثانية، والتي امتازت عن غيرها من المعارك باشتباك عدد كبير غير مسبوق من الطائرات، كما أنها استغرقت فترة زمنية غير مسبوقة أيضًا بلغت 53 دقيقة، وهي مدة زمنية طويلة في عالم المعارك الجوية لم ولن تتكرر؛ خاصة مع التقدم الذي طرأ على الطائرات الحربية في العقود التي تلت حرب 1973.

استعدت القيادة الجوية الإسرائيلية، وخططت وتهيأت في الأيام من 10 إلى 13 أكتوبر للقيام بعملية جوية كبيرة غير مسبوقة؛ خاصة بعد الحصول على موافقة أمريكا على تقديم الدعم العسكري الذي يعوض إسرائيل عن كل ما فقدته من طائرات في أيام الحرب، وبداية جسر الإمداد الجوي والبحري.

وفي يوم 18 رمضان - 14 أكتوبر نفذ العدو عمليته الجوية الضخمة لضرب المطارات المصرية في شمال الدلتا لتحييدها، وإفقادها القدرة على تقديم المساعدة في دعم وحماية القوات البرية المصرية؛ إذ كانت هذه المطارات تتولى حماية سيناء والدلتا، وجزءًا من مياهنا الإقليمية.

وهذه العملية لم تكن الأولى من نوعها في تلك الحرب؛ إذ سبقتها محاولات أخرى أيام: 7 و8 و12 أكتوبر، ولكن هذه العملية كان التخطيط والتنفيذ فيه تصميم قوي على تحقيق الهدف وبشراسة قتالية غير عادية، حيث شاركت في العملية 165 طائرة إسرائيلية جاءت من جهة البحر الأبيض المتوسط إلى شمال الدلتا عبر المنطقة بين دمياط وبلطيم وبورسعيد في ثلاث موجات جوية متتالية طبقًا لمراحل الخطة الموضوعة للهجوم الجوي؛ الموجة الأولى لاستدراج الطائرات المصرية بعيدًا عن المطارات التي تحميها، والموجة الثانية لضرب الدفاعات الجوية والرادارات، والموجة الثالثة لتنفيذ المهمة الرئيسية، وهي ضرب المطارات في منطقة الدلتا؛ خاصة مطارات المنصورة، وطنطا، والصالحية، وأنشاص، ، وفي كل موجة منها عدد كبير من الطائرات يضمن للعدو التفوق الكامل في المعركة؛ خاصة وأن طائرات العدو ذات إمكانيات قتالية عالية يصعب مواجهتها.

بدأت العملية الجوية في الساعة 15و3 ظهرًا برصد الموجة الأولى من طائرات العدو، وكانت تتكون من 20 طائرة للعدو قادمة تجاه شمال الدلتا من جهة البحر الأبيض المتوسط بغرض صرف الأنظار عن الهدف الرئيس للعملية، واستدراج الطائرات المصرية بعيدًا عن المطارات التي تحميها، فتم على الفور إقلاع 16 طائرة مصرية للتصدي لها مع أوامر بعدم التسرع في الاشتباك معها حتى تتضح نية العدو.

وفي الساعة 30و3 ظهرا تم رصد 60 طائرة قادمة من ثلاث جهات: بورسعيد، ودمياط، وبلطيم؛ فأقلعت لمواجهتها 16 طائرة ميج 21 من قاعدة المنصورة الجوية و8 طائرات من قاعدة طنطا إلى جانب الطائرات التي أقلعت سابقًا.

وفي الساعة 38و3 ظهرًا تم الإبلاغ عن موجة جديدة تتكون من 16 طائرة إسرائيلية قادمة من جهة البحر الأبيض وعلى ارتفاع منخفض، فأقلعت لمواجهتها 8 طائرات من قاعدة المنصورة و8 طائرات من قاعدة (أبو حماد)، وبدأت وقائع المعركة الفعلية.

وفي الساعة 52و3 قدمت موجة جوية جديدة بقوة 60 طائرة إسرائيلية من جهة بورسعيد، فأقلعت للمشاركة في المعركة 8 طائرات مصرية من مطار أنشاص، مع إعادة 20 طائرة كانت شاركت في المعركة ونفد وقودها وذخيرتها، وتم إعادة تزويدها بالوقود وتسليحها، لتستمر الاشتباكات بين القوتين حتى انسحاب الطائرات الإسرائيلية في الساعة الرابعة وثمان دقائق ظهرًا.

وقد أسفرت المعركة عن إسقاط 17 طائرة إسرائيلية مقابل سقوط ست من طائراتنا، ثلاث منها دمرها العدو، واثنتان بسبب نفاد الوقود قبل العودة للأرض، والثالثة تدمرت نتيجة عبورها عبر حطام طائرة فانتوم للعدو محترقة. وفشل العدو في تحقيق هدفه في ضرب مطاراتنا في الدلتا، فبقيت مطاراتنا سليمة ما عدا إصابة جزء من طرف ممر مطار المنصورة الذي لم يمنع طيارينا من استعمال باقي الممر في الإقلاع والهبوط بطائراتهم.

كانت المعركة صعبة للغاية؛ نظرًا لتفوق طيران العدو في العدد من جهة، وتفوق إمكانيات طائراته الفانتوم والسكاي هوك من جهة أخرى، والتي تمتاز بطول زمن فترة طيرانها، وكثرة تسليحها بينما كان زمن طيران طائراتنا قصيرًا، وتسليحها ضعيفًا مقارنة بطائرات العدو، فكانت طائراتنا لطول مدة الاشتباكات وشراسة القتال تحتاج من وقت إلى آخر إلى الهبوط والإقلاع من جديد لمعاودة الاشتباك مع العدو بعد التزود بالوقود والذخيرة؛ تكرر ذلك مع معظم الطيارين المصريين المشتركين في المعركة، مرة على الأقل أو مرتين، وقد أظهرت المعركة مدى كفاءة ومهارة المهندسين وموجهي الطائرات والفنيين في المطارات المصرية؛ إذ كانوا يقومون بإعادة تموين الطائرات التي هبطت إلى المطارات المصرية بعد نفاد وقودها ونفاد ذخيرتها، وتجهيزها لمعاودة الاشتباك مع العدو في مدة زمنية لا تتعدى 6 -7 دقائق، وهذا يعد عسكريًّا إنجازًا غير عادي.

وقد كان هذا الهجوم الجوي الإسرائيلي هو آخر هجوم للعدو على مطاراتنا؛ فقد امتنع العدو بعدها عن محاولة ضرب المطارات المصرية في الدلتا، وقد تم اعتبار يوم 14 أكتوبر من كل عام عيدًا سنويًّا للقوات الجوية المصرية.

ومن الأمور الغريبة: أن هذه المعركة الجوية الكبيرة لم يرد ذكرها أو الكلام عنها في مذكرات كلٍّ مِن الفريق الشاذلي، والرئيس السادات.

وللحديث بقية إن شاء الله.