استعينوا بالله واصبروا (1)

  • 52

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فواجب العبد عند حلول الفتن، وشيوع الجهل، وغلبة الهوى، هو اللجوء إلى ربِّه؛ يسأله الهداية والسداد والتوفيق؛ لينجو، وينجو معه مَن هو مسئول عنهم، كذلك يجتهد في أداء الأسباب التي تعين على تنزل الرحمات، ونيل الفضل والرضوان، وقبول المغفرة لتصرف عنا البلاء لدخول الجنة والنجاة من النيران.

ومن هذه الأسباب:

1- الاجتماع والتواصل، والتآزر والصبر على ذلك، فالسنة قرينة للجماعة، والجماعة رحمة والفرقة عذاب، ويد الله مع الجماعة، والبدعة قرينة الفرقة والهوى.

2- السداد والمقاربة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث أبي هريرة وعائشة -رضي الله عنهما-: (‌سَدِّدُوا، ‌وَقَارِبُوا، ‌وَأَبْشِرُوا) (متفق عليه)، والمراد بالتسديد: العمل بالسداد، وهو: القصد والتوسط في العبادة، فلا يقصِّر فيما أمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه.

وقال النضر بن شميل: السداد القصد في الدِّين والسبيل، وكذلك المقاربة المراد بها: التوسط بين التفريط والإفراط؛ فهما كلمتان بمعنى واحد، أو معناهما متقارب، وهو المراد بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (عَلَيْكُمْ ‌هَدْيًا ‌قَاصِدًا).

- (‌وَأَبْشِرُوا) أي: مَن مشى في طاعة الله على التسديد والمقاربة؛ فليبشر فإنه يصل ويسبق الدائب المجتهد في الأعمال، فإن الاقتصاد في السُّنة خير من الاجتهاد في غيرها، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-.

- وليست الفضائل بكثرة الأعمال البدنية، ولكن بكونها خالصة لله صوابًا على متابعة السنة (الإخلاص والنصح ولزوم الجماعة)، وكذلك بكثرة معارف القلوب وأعمالها، وهذه التي سبق بها الأوائل من الصحابة وما عندهم من سخاوة الأنفس، وسلامة الصدور والنصيحة للأمة؛ فهم أعمق الناس علومًا، وأقلهم تكلفًا، وأبرهم قلوبًا؛ اختارهم ربنا لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فصدقوا الله فصدقهم؛ فكذلك فكونوا.

3- البشارة والفرحة، وعدم الإحباط والانهزامية، وذلك ثمرة بذل الجهد في الطاعة الفردية والجماعة مع السداد والمقاربة، فإن طغيان الفردية وتسلط المرض الشخصي مهما قدم، ففيه العوار وعدم الكمال، وبركات العمل المؤسسي تحفظ أفراده من رؤية أنفسهم أو أعمالهم وسط بركان العطاء المتدفق برحمة الله من الجميع، وإن ما يخرج من اللؤلؤ والمرجان من بحر الجماعة لا يراه الحاقدون إلا حجارة، ومع الأيام سوف تتجلَّى الحقائق، وسيبصر مَن لم يرَ اليوم حقيقة الأمور وقواعد الشرع الحنيف، وما يكون في محيط الجماعة من كنوز وأصداف ولآلئ ومرجان، يحفظ بها ديننا، ونرعى به نسلنا وأهلينا، ولا نراوغ ونضل، فيحاط بكلِّ مقدارتنا وثمارنا.

4- الاستقامة والحياة على المنهج الصحيح الرباني الذي عاش عليه الأوائل يحتاج إلى سقاية ورعاية، وبذل وصبر؛ للاستمرار على السير عليه، فالله -عز وجل- ما زال يهدي نبيه إلى صراطه المستقيم قبل وفاته بقليل كما في سورة الفتح في بدايتها: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ‌وَيَهْدِيَكَ ‌صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) (الفتح: 1-2)؛ ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسيره لقول الله: (‌اهْدِنَا ‌الصِّرَاطَ ‌الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة: 6)، فالناس محتاجون إلى الهداية أشد من حاجتهم إلى الرزق والنصر، فإن فات العبد الرزق مات وأمره إلى الله، وإن لم ينتصر مات شهيدًا، ولكن إن فاتته الهداية ضل، فالهداية بها يُنال الرزق والنصر، وكذلك من ثمراتها هداية بعد هداية، كما قال -تعالى-: (‌وَالَّذِينَ ‌اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) (محمد: 17)، والصادق يعلم أن النجاة بتوفيق الله -عز وجل-، قال -تعالى-: (‌يُدْخِلُ ‌مَنْ ‌يَشَاءُ ‌فِي ‌رَحْمَتِهِ) (الشورى: 8)، وأولى الناس بذلك مَن يذكر اسم ربه بكرة وأصيلًا، ومن الليل يسجد له ويسبحه ليلًا طويلًا.