عاجل
  • الرئيسية
  • مقالات
  • مقالات في علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى (13) تابع الكلام حول أركان القراءة وعلاقتها بعلم القراءات

مقالات في علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى (13) تابع الكلام حول أركان القراءة وعلاقتها بعلم القراءات

  • 64

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فالركن الثالث من أركان القراءة الصحيحة هو صحة السند، ومعناه: أن يروي القراءة عدل ضابط عن مثله إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- من غير شذوذ، ولا علة قادحة. 

ومن الأجدر قبل الكلام عن هذا الركن أن نبيِّن مسألة مهمة؛ ألا وهي: ماذا لو اختل ركن من أركان القراءة الثلاثة؟ 

والجواب: قال ابن الجزري -رحمه الله- في طيبة النشر:

وحَيـثُـماَ يَخْتَلُّ رُكْـنٌ أَثْبِتِ                 شُذُوذَهُ لَوْ أنَّهُ فِي السَّبعَةِ

والمعنى: لو اختل ركنٌ من أركان القراءة؛ فإنه يحكم عليها بالشذوذ حتى ولو قرأ بها القراء السبعة المشهورون، ولا بد من الانتباه إلى أن القراءات عشر وليست سبعة، والقول بأنها سبعة فقط ليس له حظ من النقل أو الأثر، وإنما هو من كلام بعض المتأخرين الذين لم يقرؤوا بأكثر من السبع. (انتهى بتصرف من شرح الطيبة للعلامة محمد بن محمد بن محمد محب الدين أبي القاسم النويري).

ثم بعد ذلك لا بد أن نعي: أن الاعتماد في نقل القرآن متوقف على الحفظ في القلوب والصدور، لا على المصاحف والكتب؛ فقد روى مسلم في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ ‌كِتَابًا ‌لَا ‌يَغْسِلُهُ ‌الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانًا...(رواه مسلم).

ففي هذا الحديث إخبار من الله -تعالى- أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، بل يقرأ في كلِّ حال، بخلاف أهل الكتاب لا يقرؤون إلا نظرًا، وقد توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو محفوظ في الصدور، ولما تولَّى بعده الصديق -رضي الله عنه-، واندلعت الحروب مع مسيلمة الكذاب، قام الصديق -رضي الله عنه- بعد مشورة الصحابة بجمع القرآن في مصحفٍ واحدٍ؛ خشية أن يذهب بذهاب قرائه، وأمر زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري كاتب الوحي بجمع القرآن، حتى قال زيد -رضي الله عنه-: "والله لو كلفوني نقل الجبال لكان أيسر عليَّ من ذلك!"، قال زيد: "فجعلت أتتبع القرآن من صدور الرجال، والرقاع -وهي: قطع الجلد-، والأكتاف -وهي: عظام الكتف المنبسط كاللوح والأضلاع-، والعسب: سعف النخل، واللخاف: الأحجار العريضة البيضاء؛ وذلك لانعدام الورق حينئذٍ، قال زيد: "فذكرت آية كنت قد سمعتها من النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ(التوبة: 128)، فلم أجدها إلا عند خزيمة بن ثابت.

وقال أيضا: "فقدت آية كنت أسمعها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ما وجدتها إلا عند رجل من الأنصار وهي: (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا(الأحزاب: 23).

وهنا تساؤل: لماذا يتتبع زيد القرآن ليجمعه وهو حافظ له، وهو مِن كاتبي الوحي؟ وكيف يحصل التواتر بما عند واحد من الصحابة؟

والجواب: أن هذا أبلغ في التواتر، وقد يجاب أيضًا بجواب آخر يعضد الأول، وهو: أنه ربما كان هذا الجمع لاستكمال وجوه قراءاته، فكتب زيد القرآن بجميع أحرفه ووجوهه المعروفة بالأحرف السبعة، فلما تمت كتابة الصحف أخذها أبو بكر عنده حتى أتاه الموت، ومن بعده عمر، فلما مات أخذتها ابنته حفصة -رضي الله عنها-، وفي سنة ثلاثين من خلافة عثمان -رضي الله عنه-، وأثناء الفتوحات رأي حذيفة اختلاف الناس في القرآن، فقال حذيفة لعثمان: "أدرك هذه الأمة قبل اختلافهم اختلاف الخارجين من الملة"، فأرسل إلى حفصة وأحضر الصحف، وأمر زيدًا، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بنسخها في المصاحف، ويردون لحفصة الصحف، فنَسَخ عنها عدة مصاحف، وأمسك لنفسه مصحفًا، وهو المعروف: بمصحف الإمام.

وقد اختار الخليفة عثمان -رضي الله عنه- زيدًا أسوة بنبيه -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه، وضم إليه هؤلاء لاشتهار ضبطهم ومعرفتهم، وكتبوا القرآن مائة وأربعة عشر سورة، أولها: الحمد (الفاتحة)، وآخرها: الناس، وأول كل سورة البسملة؛ إلا أول سورة براءة، فجعلوا مكانها بياضًا، وجردوا المصاحف من أسماء السور، ونسبتها، وعددها، وتجزئتها، وفواصلها، تبعًا لأبي بكر الصديق، واجتمعت الأمة على ما في هذه المصاحف، وترك ما خالفها من زيادة ونقص، وإبدال كلمة بأخرى، مما كان مأذونًا فيه توسعة عليهم، ولم يثبت عندهم ثبوتًا مستفيضًا أنه مِن القرآن.

وجردت هذه المصاحف كلها من النقط والشكل؛ لتحتمل ما صَحَّ نقله، وثبتت تلاوته وروايته عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الاعتماد -كما أسلفنا- على الحفظ، لا على مجرد الخط.

وما ذكرناه في هذا المقال هو توطئة ومقدمة للكلام عن الإسناد والتواتر.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.