عاجل

ميلاد أمة... ألم وأمل!

  • 91

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فأبشروا عباد الله.

فإن للميلاد مخاضًا، ولكل مخاض ألمٌ.

لكنه ألمٌ لا بد منه حتى تأتي الفرحة بعده، فكثير من الأفراح لا تأتي إلا بعد ألم أو جهد وتعب!

ولقد علمتم أن أظلم ما يكون الليل قبل طلوع الفجر.

فأبشروا عباد الله.

فإن الناظر في التاريخ بمراحله ليرى ذلك متكررًا؛ أنه إذا اقترب النصر والتمكين يهيئ الله للأمة من أسباب ذلك ما لم يخطط لتفاصيله تلك أحد، لكن إذا أراد الله شيئًا هيأ أسبابه، (وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا) (الأنفال: 42).

حتى في تلك المرحلة الإصلاحية المعاصرة ومنذ ثلاثة قرون كان للمراقب والملاحظ أن يرى عددًا من المصلحين ظهروا كجيل متقارب زمنًا وروحًا وهدفًا، لا تواصل بينهم إلا فيما ندر!

فترى عددًا منهم في اليمن، وفي الجزيرة، وفي الهند، وفي مصر، وفي الغرب الإسلامي وغيرها، ففي وقت متقارب ترى الله بعث لهذه الأمة عددًا من المصلحين ينبئ ببداية يقظة لهذه الأمة، وقد كان!

إن أمتنا لها قرون طويلة في تأخر وضعف وهوان، ومع أن الآلام تزداد؛ إلا أن الأحداث اليوم تنبئ لكل ذي نظر بميلاد أمة جديد، والناظرون في الواقع والسنن الإلهية ليرون لآلئ الفجر قد اقتربت، لكنها آلام المخاض، فليكن ما يكون. ونسأل الله العافية والصبر واليقين.

ونحن لا نشترط على الله شيئًا بعينه لا زمانًا ولا مكانًا، ولا أشخاصًا، بل نحن عبيد مربوبون، والله فعَّال لما يريد، ويبقى الوثوق بموعود الله هو الأمل بأن هناك فجرًا قريبًا وميلاد أمة وشيك الحدوث، فنحن متأكدون أن التمكين كائن، والنصر حاصل، والعاقبة للمتقين، لكن فقط علينا أن نأخذ بالأسباب، ومنة الله حاصلة شاء مَن شاء وأبى مَن أبى؛ إنه لا يشترط لكي تقوم أمتنا أن يفيق كل المسلمون، لكن أن توجد طائفة كبيرة من الأمة صالحة مصلحة.

إن للتمكين والعزة ثمنًا، وإن ثمن التمكين مدفوع حتمًا ولا بد، لكنه شرف لا يستحقه كله أحد ولا عزاء للجبناء، (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (التوبة: 82).

بهذه النظرة فليشارك كل مَن يحب لنفسه أن يكون جزءًا من ذلك الشرف العظيم؛ شرف العمل للدين، ونصرة الإسلام والمسلمين، يشارك بكل ما يستطيع: بالصبر والبذل والتضحية، بالعلم النافع والعمل الصالح، بقلوب حية ودعوات صادقة، هو ثمنٌ سيُدفع، فلتدفع فيه بما استطعت مِن: نفسك ومالك وبدنك، وعلمك وعملك، ودعوتك وجهدك، وبكل ما تستطيع، لا فرق بين المسلم في الصين والمسلم في الغرب والمسلم في فلسطين.

اعمل ولو من وراء البحار، فالأمور بيد الله لا بمحض الأسباب المادية؛ كل يدلي بدلوه ليدفع جزءًا مِن هذا الثمن، والمنة لله وحده، والقلوب معلَّقة بفضل الله لا بالأسباب.

مَن يسجد اليوم سجدة في ظلمات الليل بإخلاص هو مشارك حقيقي في ثمن ذلك النصر.

مَن يعلِّم صبيًّا سورة من القرآن هو مساهم بسهم في ذلك التمكين.

وكذا كل مَن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر، أو ينشر سنة، أو يعلِّم خيرًا، أو يصلح بين المسلمين أو يربي أطفالهم أو يخفف عن مصابهم، أو يكفل يتيمهم ويرعى أراملهم، إلى غير ذلك من البر والخير الذي هو داخل في الجهاد بمعناه العام والشامل، وهو خطوة على سبيل النصر والتمكين الذي هو وسيلة عظيمة في تعبيد الناس لربهم، ويبقى أن أفضل كل أبواب الخير تلك -وغيرها- هو: أن يشارك كلٌ في مكانه بواجب وقته بحسب الممكن والمستطاع.

فالكل عليه أن يساهم بما يقدر عليه، ويبذل ما تيسر له، ويتمنى الخير والتوفيق لغيره فيما فيه صلاح للمسلمين، ويدعو المسلمون بعضُهم لبعض محققين معاني الأخوة الإيمانية والحب في الله على منهج الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدِّين، فكلها خطوات على الطريق، والأمور معلقة بأسبابها، والله يمن بفضله على مَن يشاء وقت ما يشاء؛ فهو العليم العزيز الحكيم.

فكما أن حصول درجة الوسيلة لنبينا -صلى الله عليه وسلم- مكتوب؛ إلا أنها درجة مقدرة أيضًا بأسباب، ومن هذه الأسباب: أن يتشرف بعض المسلمين بمساهمتهم في تلك الدعوات التي تلي كل أذان، فنؤمن بالقدر ونعمل بالشرع، فالدرجة مكتوبة وحاصلة، لكنها حاصلة بأسبابها، كذلك فالنصر حتم مكتوب بأسبابه.

وهذه الأسباب قد يكون بعضها صبر على بلاء وبعضها جهاد ورباط، وبعضها دعوات وصلوات، وبعضها علم نافع، وبعضها عمل صالح، وبعضها دعوة إلى الله، إلى غير ذلك، والله أعلم بحقيقة ذلك، لكن الكل يساهم في ما يستطيع وبما يستطيع مِن المساهمة، وأعلاها: كما قلنا القيام بواجب وقته أيًّا ما كان هذا الواجب.

لا بد من نشر قضايانا -قضايا المسلمين-، وتربية الأجيال عليها، ومن أهمها: قضية المسلمين في فلسطين؛ قضية مسجدنا الأقصى الأسير، فساهم في إحياء قلب شاب وإحياء القضية في نفسه وفي مَن حوله؛ ساهم ولو بسجدة، ساهم ولو بدعوة.

ونصيحتي: أن يحاول الإنسان أن يترجم مساهمته لعمل دائم لا لمجرد عمل لحظي مؤقت، فيبني على ما يشعر به الآن أنه أصبح مثلًا يدعو للمسلمين في كل صلاة  أو في كل يوم في قيام الليل، أو كل جمعة بعد عصر يوم الجمعة، فيترجم هذا لعمل دائم لا ينقطع بانقطاع الأحداث -وإن كانت لا تنقطع-، وكذلك يترجم ذلك لتعلم نافع مستمر، أو لتعليمٍ لأطفال المسلمين القرآن ومعاني الإسلام والدين، أو يترجم ذلك لعمل دعوي معين يشارط نفسه عليه حتى الممات، وبالتالي يكون جزءًا من تلك الخطوات لهذه الأمة في تحقيق ذلك النصر.

هذه الطريقة تجعل كل واحد منا يقدم ما يستطيع ولا يحقرن من المعروف شيئًا، وتجعل المشاعر الصادقة تُتَرجم لعمل في الواقع؛ فتتحول الدمعات على ما يحدث لدعوات، ويترجم ذلك الغيظ والألم إلى صبر وعمل بالقلب واللسان والجوارح، وبذل وتضحية وجهاد بالمال والنفس، وحينئذٍ فأبشروا وأملوا؛ فإن مع العسر يسرًا، إن مع العسر يسرًا، والنصر قريب بفضل الله لا بمحض الأسباب، وملامح الفرج بادية في الأفق، لكنها آلام مخاض لميلاد أمتنا العظيمة.

فاللهم هيئ لأمتنا أمر رشد وعجِّل بنصرك الموعود.