عاجل

تأملات في مسألة القدس (2)

  • 105

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فإن قتل الأنبياء وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس لأجل أمرهم بالقسط وإيذاء عباد الله المؤمنين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؛ لهو من أسباب زوال الدول وتسليط العدو.

ولما زاد كفرهم وجاء وعد العقوبة على أُولى المرتين في الإفساد: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا) كان الفساد بالشرك، والمعاصي والذنوب، والبدع والضلالات؛ فسَلَّط الله عليهم بختنصر فقتل منهم خلقًا كثيرًا، بل أسر الجميع فيما تسميه بني إسرائيل: "سبي بابل"، فلم يترك أحدًا على الإطلاق إلا سبي وأُسِر حتى الأنبياء كذلك، ولم يعد هناك نسخة واحدة من التوراة، وسُبِيت كل نسائهم وأطفالهم وأُخذوا إلى بابل، وهُدِم المسجد الذي بناه إبراهيم أو إسحاق أو يعقوب -عليهم السلام-؛ فإن المسجد الأقصى بني بعد المسجد الحرام بأربعين عامًا، وهذا يتناسب أن يكون في آخر عهد إبراهيم أو في عهد إسحاق أو يعقوب، والله أعلم.

ودمَّروا المسجد تدميرًا، وهدموا المدينة بأسرها وأخلوها من سكانها، وسفكوا دماء مئات الألوف كما فعل التتار بالمسلمين لما وقع الفساد والبدع والشرك في المسلمين، فتسلَّط التتار وهم كفار عليهم مثلما تسلط بختنصر على بني إسرائيل، ثم بعد ذلك استمرت الدعوة إلى الله من خلال الأنبياء.

وبعد مئات السنين أراد الله أن ينقذ بني إسرائيل مرة أخرى، فكان الإنقاذ على يد طالوت وداود -عليه السلام-، قال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ ‌قَالُوا ‌لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا) (البقرة: 246)، وخوَّفوهم من أن الكلام يكون سهلًا والعمل يكون صعبًا على الكثيرين، وما كان ذلك إلا ثمرة الدعوة، وقال -سبحانه وتعالى- في وصفِ ما جَرَى في عهد داود -عليه السلام- إلى أن هزموهم: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا).

وبهذا نعلم أن الأخذ بالأسباب لابد منه، فلابد من المال والشباب والبنين الذين هم أبناء آبائهم، وليس الذين يسبون سلفهم، ولا الذين يسبون أوائلهم؛ لذلك لا يمكن أن يكون النصر لأمة الإسلام على يد مَن يسبون أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويطعنون فيهم، ومَن يفكر في هذا لا يعرف العقيدة الصحيحة، ولا يعرف سنة الله في خلقه حين يسعى لتمكين الرافضة والشيعة الضُّلَّال الذين ما دَخَلوا مكانًا من بلاد الإسلام إلا دمَّروه؛ بل لابد وأن يكونوا أبناء مَن سبق مِن الأمة.

(وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا) يعني القوة العسكرية، وليس مَن يقاتلون دون ذلك، ويظنون أنهم بذلك يصنعون شيئًا بمجرد أن يقتلون رجلًا هنا، ورجلًا هناك! وموسى -عليه السلام- قد وَقَع منه مثل ذلك فعده من عمل الشيطان، فقد قَتَل رجلًا من الفراعنة كان يعتدي على رجل من بني إسرائيل ويتقاتل معه، ولكن كان في توقيت لم توجد إمكانية جنود أو أموال أو شباب، وكان موسى لا يقصد قتل هذا الفرعوني، بل كان يقصد دفعه، لكن كانت الدفعة قوية، (‌فَوَكَزَهُ ‌مُوسَى ‌فَقَضَى ‌عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ . قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ) (القصص: 15-17).

وقال عن فعلته تلك بعد أن نبَّأه الله وأرسله: (‌فَعَلْتُهَا ‌إِذًا ‌وَأَنَا ‌مِنَ ‌الضَّالِّينَ) (الشعراء: 20)، لكن تأمل كيف قال موسى -عليه السلام- ذلك، مع أن الرجل المقتول كان حربيًّا كافرًا يعبد الأوثان، معتديًا ظالمًا، ومع ذلك عدَّ موسى -عليه السلام- قتله ظلمًا للنفس، وكان ضلالًا بالنسبة لموسى؛ لما علم من سنة الله بعد ذلك، ومن حكمته -سبحانه- التي عَلَّمه إياها بالوحي المنزَّل بعد ذلك.

فكيف بمَن يقتل المسلمين؟!

وكيف بمَن لا يراعي كلمة التوحيد والشهادة؟!

نعوذ بالله من هذه البدع المهلكة؛ فإن تكفيرَ المسلمين بغير بينة ودليل، واستباحة دمائهم وأعراضهم وأموالهم؛ لهو أعظم خطرًا من قتل النفوس؛ لأنه يأخذ الذنب بمجرد التكفير حتى ولو لم يقتل أحدًا كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهْوَ ‌كَقَتْلِهِ) (رواه البخاري)، وقال -عليه الصلاة والسلام-: (وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ ‌كَقَتْلِهِ) (رواه مسلم)، ولو كان على سبيل السباب؛ فكيف إذا كان بسبب الاعتقاد؟! نعوذ بالله من ذلك.

أترون مثل هؤلاء يمكن أن يمكَّن لهم؟! ولو مَكَّن لهم فهو من ابتلاء الله -عز وجل- لعباده بما كسبت أيديهم؛ لذا كان الخوارج كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ ‌وَيَدَعُونَ ‌أَهْلَ ‌الْأَوْثَانِ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ) (متفق عليه)، ولا تغتر بما يتلون من كتاب الله ويظهرون العبادة والالتزام بالدِّين، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (فِيكُمْ قَوْمٌ ‌تَحْقِرُونَ ‌صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ، وَيَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) (متفق عليه).

نعوذ بالله من حالهم ومن صفاتهم، والله -سبحانه وتعالى- أمرنا بالأخذ بالأسباب؛ فلا تقاتل عدوك وأنت لا تملك أسباب القتال، ومِن أين لنا؟!

فنقول: كما كان بنو إسرائيل تحت حكم بختنصر، ثم بعد ذلك جعل الله لهم الكرة وأمدهم بالأموال والبنين وجعلهم أكثر نفيرًا فلا تظن أن الأمور من الأرض، ولا تظن أن قوة الأمم وضعفها بيد أصحاب المال والسلطة فقط؛ إن هذا مجرد ابتلاء، والله هو الذي بيده الأمر كله، فنواصي الخلق بيده نعوذ بالله من الشرك والضلال ثم بيَّن الله لنا القاعدة المستمرة في ذلك فقال: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا)، فبالإحسان يمدنا الله بالأموال والبنين، ويجعلنا أكثر نفيرًا.

أترون عباد الله قلوب العباد كيف يقلِّبها الله؟ تجد هذا الشخص قد التزم وأطاع الله -تعالى-، ثم إذا به ينقلب، ثم إذا به تحترق جنته لما أصابها من عند الله بسبب عمله، قال -تعالى-: (‌أَيَوَدُّ ‌أَحَدُكُمْ ‌أَنْ ‌تَكُونَ ‌لَهُ ‌جَنَّةٌ ‌مِنْ ‌نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ) (البقرة: 266)، قد حبط العمل وذهب، وأحيانًا يظل الإنسان على الطاعة والإيمان إلى أن يموت ثم يخرج مِن صلبه مَن يكون فاسدًا، يضحى إنسان بكل شيء في شبابه وشيخوخته، ثم يأتي بعد ذلك مِن نسله مَن يكون متبعًا للشهوات مفسدًا فاجرًا، سبحان الله!

ثم تجد مِن نسل الكفار مَن يكون داعيًا إلى الله مهتديًا تمام الاهتداء، وتجد موجة من التدين تعم الشباب والشيوخ، والرجال والنساء، ثم تجد موجة أخرى من البُعد عن الدِّين وانتشار الشركيات، وانتشار الفساد، والبدع والضلالات، والإفتاء ما يخالف دين الله -عز وجل-، وانتشار التبرج، وأكل الربا، وأكل السحت والرشوة، وأكل الحرام، ثم تأتي بعد ذلك أوقات أخرى؛ فالأمر بيد الله، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا ‌بَيْنَ ‌إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ)، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ) (رواه مسلم).

فهذه هي القاعدة حتى نحسن ولا نسيئ؛ لأن الإساءة علينا، وهي التي تجلب لنا الخزي والهوان، وتجلب ضرب الذلة والمسكنة علينا، نعوذ بالله من المذلة والمسكنة، والعيلة، وهذه الأمور هي أسباب النصر وأسباب الهزيمة.

(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا).

عاد بنو إسرائيل للإفساد، وقتل أنبياء الله، وتسببوا في قتل يحيى بن زكريا -عليهما السلام-، وحاولوا قتل عيسى -عليه السلام- وصلبه، (وَمَا ‌قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ‌وَمَا ‌قَتَلُوهُ يَقِينًا) (النساء: 157)، فسَلَّط الله عليهم بسبب ذلك الرومان؛ فقهروهم أشد القهر، وسَلَّط الله عليهم مَن دَمَّر المسجد تدميرًا، ولم يقم بعد ذلك إلا في عهد أهل الإسلام لما فتح المسلمون القدس، وبنى عمر -رضي الله عنه- المسجد الأقصى -بحمد لله تعالى-، كما بَشَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: (‌اعْدُدْ ‌سِتًّا ‌بَيْنَ ‌يَدَيِ ‌السَّاعَةِ: مَوْتِي ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ...) (رواه البخاري)، فكانت بشارة لهم بأن فتح بيت المقدس يكون على أيدي خلفائه الراشدين -رضي الله عنهم-.

ثم عاد المسلمون إلى معصية الله -تعالى-، فَأُخِذ منهم المسجد الأقصى، قال -تعالى-: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ)، فإذا جاء وعد المرة الآخرة والعقوبة على آخر الإفسادين، ليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، أي: هادمين له، مزيلين لهذه البلدة، (لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) أي: ليدمروا كلَّ ما ظهروا عليه، وقد كان ذلك في عهد الرومان.

وكل ذلك عظة لنا؛ لننظر الواجب علينا في توحيدنا وعباداتنا التزامنا؟!  

لا يظنن أحدٌ أن نشر البدع والفساد يمكن أن يكون فيه استقرار المجتمعات والأمم؛ إن نشر البدع والضلالات يعقبه نشر الشر والفساد، واللجوء لغير الله، والتحاكم لغير شرعه، ويعقبه موالاة الكفار، وأن يكونوا أعوانًا لهم على هدم دينهم وبلادهم، ويكون من أسباب الفساد ما لا يعلمون.

إنا إذا أردنا العزة والكرامة والقُرب من الله -تعالى-؛ فلن يكون لنا ذلك إلا بالالتزام بدين الله -عز وجل- وشريعته، واتباع سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-؛ قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "إنا كنا أذل أمة فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله".