• الرئيسية
  • منظومة الري الداخلية تعاني من شيخوخة متقدمة

منظومة الري الداخلية تعاني من شيخوخة متقدمة

  • 107

التطهير الميكانيكي دمر المجاري المائية وحولها إلى خنادق
نستخدم المياه مرة واحدة وألمانيا 15 مرة!!
استمرار الري بالغمر بهذه الكثافة يدفع بنا إلى كارثة


التطورات التي تشهدها قضية منابع النيل، وفشل المفاوضات الواحدة تلو الأخرى، مع أثيوبيا ودول المصب، وقرب الانتهاء من إنشاء سد النهضة، والأداء الضعيف لوزارة الري في هذا الملف، دفعنا لفتح ملف منظومة الري الداخلية المصرية، ومدى ما طرأ عليها من تطوير؛ حيث لا سبيل في الأفق المنظور، إلا محاولة تعظيم الاستفادة من مواردنا المائية الحالية، وعلى رأسها شبكة الري الداخلية، وتؤكد كل الشواهد والدراسات، أن هذه الشبكة وصلت لمرحلة شيخوخة متقدمة، وأنها غارقة في التخلف، وتؤدي إلى فقد الكثير من المياه؛ لتصل إلى أرقام ضخمة .. الآن تتعالى الأصوات التي تنادي بجعل هذه الوزارة التي أهمل متابعتها من الوزارات السيادية، ومضاعفة ميزانيتها، وتخصيص جهاز رقابي رفيع للتأكد من حسن صرف هذه الميزانية.
الهموم والمشاكل والثغرات في هذا القطاع عديدة، ومركبة، ومتراكمة، نحاول من خلال هذا التحقيق تلمس بعض أوجه الخلل، والبحث عن حلول لها، بهدف تعظيم الاستفادة من مياه النيل، بعد أن بات في حكم المؤكد عدم زيادة حصتنا من نهر النيل، بل إن الدبلوماسية المصرية تقاتل الآن بضراوة للحفاظ على الحصة الحالية، بعد أن تأكد بما لا يدع مجالا للشك، أن هناك أطرافا إقليمية ودولية عديدة على الخط، منها: الصين، وإسرائيل، ودول الخليج، متمثلة في صندوق الإنماء العربي.

اللبن المسكوب

الدكتور محمد دياب، أستاذ ورئيس قسم الأراضي والمياه بكلية الزراعة جامعة الأزهر، يؤكد أن الحديث حول تطوير نظم وأساليب الري، حديث ذو شجون، وقد بحت أصوات الباحثين، أن التخلف عن تطوير هذا القطاع بالغ الحيوية سيكلفنا الكثير، وقد تقف إمكانياتنا عاجزة أمامه، ويشير الدكتور محمد في هذا السياق، إلى أنه ليس معنى ذلك ألا نبدأ، ونقف نبكي على اللبن المسكوب، بالفعل تأخرنا طويلا، وهذا أدعى إلى أن نبدأ على الفور.
في البداية، على الأجهزة الحكومية أن تدرك أن ملف تغيير نظم الري باهظ التكاليف، ليس مسئولية وزارة بعينها، وإنما مسئولية كافة القطاعات، وعلى الجميع أن يشارك في هذا التطوير؛ لأن الطريق طويل، وشاق، ونملك من الكوادر البشرية ما يمكنَّا من اجتياز هذا التحدي، فالمهندس المصري يعد من أكفأ مهندسي العالم.

ويوضح، أن الري بالغمر أصبح من غير المنطقي تطبيقه بهذه الكثافة، والقضاء بشكل كامل على أوجه إهدار المياه السائدة حاليا، بشكل مستفز، خاصة المخزون الجوفي، فعلى سبيل المثال استهلاك فدان أراضي الجولف يكفي لزراعة 14 فدان أرز، هل لعاقل أن يتصرف بثروته المائية المحدودة بهذه الطريقة الجنونية، فالجميع يعلم أن مصر تعيش منذ فترة في مرحلة الفقر المائي؛ حيث إن نصيب الفرد من المياه وصل إلى 600 متر مكعب سنويا، في حين أن الحد الأدنى للاستهلاك عالميا 1000 متر مكعب سنويا.

ويطالب بالاستفادة من الطاقات المتجددة لتعذيب المياه، وإعادة معالجة مياه الصرف بكجميع أنواعها، ويكفي أن نعرف أن العائد الاقتصادي للتر المياه في مصر، هو الأدنى على مستوى العالم؛ إذ يصل إلى دولار واحد، في حين أن العديد من دول العالم يصل العائد لديهم إلى 280 دولارا للتر، كما يطالب بمضاعفة ميزانية الري، وربطها بالبحث العلمي، مشيرا إلى وجود المئات من الأبحاث العلمية، التي تتناول محور التطوير، وأغلبها صالح للتطبيق، شرط وجود إرادة تنفيذية حقيقية.

استراتيجية جديدة

الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الأراضي والمياه بزراعة القاهرة، يؤكد ضرورة إرساء استراتيجية متكاملة للتطوير قبل البدء فيه، تعتمد على ثلاثة محاور، الأول: الاستغلال الأمثل للمياه، وترشيد الاستخدامات من تقليل الفاقد الطبيعي أثناء عمليات النقل من خلال المجاري المائية التي تحتاج إلى تطوير شامل، وتغطية أكبر قدر من شبكة الري، بدءا من الرياح حتى المساقي والمراوي؛ حيث إن فاقد البخر في هذا المحور كبير جدا.

والمحور الثاني للتطوير: يرتكز على حسن اختيار المحاصيل والزراعات، بحيث تكون غير مستنفذة للمياه، وبما يتناسب مع التربة المصرية)؛ فهناك محاصيل تستهلك كميات ضخمة من المياه، تنتج منها فوق طاقتنا، مثل الموز، الذي يعد المحصول الأكثر خطورة على ثروتنا المائية، ثم محصول الكرنب والقلقاس، هذا بالإضافة لمحصول الأرز، وهناك من البحث العلمي ما يدعم إنتاج حاصلات زراعية ذات كفاءة عالية في استهلاك المياه.

والمحور الثالث: كما يشير الدكتور نادر، هو تنمية الموارد المائية المصرية داخليا وخارجيا، والأساس في التنمية الداخلية، هو إعادة استخدام ومعالجة المياه؛ ليتم الاستفادة منها أكثر من مرة، وهذا هو الاتجاه العالمي الذي بدأ منذ فترة، واثبت نجاحا كبيرا، وللأسف فإن معدل استخدامنا للمياه في أغلبه لا يزيد عن المرة الواحدة، وربما بدون معالجة، كما هو الحال في مياه الصرف الزراعي، في حين أن دولة كألمانيا تعيد استخدام مياهها بمعدل يتراوح بين 10 إلى 15 مرة.

أما التنمية الخارجية، فهو العمل ومساعدة دول المصب في تنمية مواردها من المياه، والتي تصل إلى 1400 مليار متر مكعب، في حين أن الفاقد منه يصل إلى 1200 مليار متر، وأغلب الفاقد يلقى في المحيطات، ويتركز بعدد كبير من المستنقعات، التي تمثل أزمة صحية كبيرة لهذه الدول، فدولة مثل أوغندا تفقد في المستنقعات فقط 20 مليار متر، ومستنقعات بحر الجبل بالسودان؛ مشيرا إلى أنها منطقة منعدمة الانحدار يفقد فيها 30 مليار متر مكعب، ويمكن الاستفادة من هذا الفاقد من خلال استقطاب مياه المستنقعات.

ويؤكد الدكتور نادر عدة اعتبارات أثناء البدء في تطبيق استراتيجية التطوير، أهمها الإخلاص في الأداء، واشتراك أكثر من وزارة في عمليات التطوير، مع وجود آلية محددة للتنسيق بين مختلف الجهات؛ للخروج بخط واحد واضح للتطوير، وصرف الاعتمادات المالية والمنح الدولية في هذا الاتجاه، والتي تحصل مصر منها على نصيب وافر في عمليات التطوير نفسها؛ حيث إن المصاريف الهامشية في هذا الإطار مبالغ فيها.


جداول الري

المهندس محمد قبالي، وكيل وزارة الري سابقا، يقول عن علاقتنا بدول حوض النيل، إننا كنا نائمين في العسل ولم نستوعب هذه الدول، رغم أن معظم وزراء الري بهذه الدول تلقوا تعليمهم بمصر، ولهم صداقات عديدة بها، وكان يمكن استغلال ذلك ليصب في مصلحة مصر، كما كان يجب دعم وزارة الري بشكل أوسع مما كانت عليه أثناء المفاوضات، وعن عمليات تطوير منظومة الري، يؤكد أنها موجودة، وبدأت عام 1964 منذ إنشاء السد العالي، مرورا بإعادة استخدام مياه الصرف الزراعي، وإصدار قانون ينظم استخدام المخزون الجوفي، وهناك مشروع طموح لتطوير المجاري المائية بمحافظتي البحيرة، وكفر الشيخ مطلوب الحصول على اعتمادات مالية لتعميمه على باقي الجمهورية، والإسراع من وتيرة التطوير في ظل هذه التحديات المائية الكبيرة.

ويشير المهندس قبالي، إلى أن من بين المشاكل التي تعترض تطوير منظومة الري، عدم خضوع العديد من المساقي لولاية وزارة الري، والمطلوب في هذا الإطار دخول كل مجرى مائي مهما كان حجمه أو طوله جداول الوزارة؛ لتتمكن من إزالة التعديات الواقعة على هذه المجاري، وإدخالها ضمن مظلة الصيانة وتحت منظومة التطوير التي يجب أن تحظى بالدعم المالي المناسب، بما يتناسب مع كونها قضية أمن قومي.

وأوضح، أن عمليات التطهير الميكانيكي الذي لجأت إليه الوزارة بسبب ندرة الأيدي العاملة، أدى إلى تدهور شديد في المجاري المائية التي أصبحت مثل الخنادق، وهو ما يرفع من نسبة الفاقد؛ موضحا أنه يجب البحث عن بديل مناسب في هذا الاتجاه، وإحكام الرقابة والمتابعة لعمليات التطهير التي يمكن أن تكون ورقية، وشدد على الالتزام بالري المتطور، خاصة في الأراضي الصحراوية، فعلى سبيل المثال أراضي ترعة النصر، والتي تصل إلى 400 ألف فدان، واجب ريها بالنظام المتطور، إلا أن الواقع يؤكد أن 300 ألف من هذه المساحة تروي بالغمر، مع ضرورة التركيز على نشر الثقافة المائية، فأغلب المزارعين الذين يرون بالرش، لا يعلمون أن من أساسيات الري بهذه الطريقة، أن يكون الري بعد غروب الشمس، وليس صباحا كما هو متبع.

الدكتور ابراهيم الشامي، أستاذ المياه الجوفية بجامعة حلوان، يؤكد أن معظم الأراضي المصرية تروي بالغمر، وتغيره لنظم الري الحديثة يمثل التحدي الأكبر، مع ضرورة أن يشمل التطوير كذلك تغيير النظام الزراعي، وتقليص عدد من الزراعات، وإعادة النظر في خريطة التركيب المحصولي.
ويشير إلى أن عملية تطهير المجاري المائية التي تتم الآن يجب أن يعاد النظر فيها، خاصة بعد تولي القطاع الخاص تنفيذه، حيث يوجد العديد من الشكوك.