«وإذا خاصم فجر»

  • 220
أرشيفية

«وإذا خاصم فجر»
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله,
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» متفق عليه.

الأخلاق في دين الإسلام عظيم شأنها عالية مكانتها، وهي أحد الأصول التي يقوم عليها دين الإسلام، يقول ابن حبان: «الواجب على العاقل أن يتحبب إلى الناس بلزوم حسن الخلق، وترك سوء الخلق، لأن الخلق الحسن يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد، وإن الخلق السيئ يفسد العمل كما يفسد الخل العسل، وقد تكون في الرجل أخلاق كثيرة صالحة كلها، وخلق سيئ، فيفسد الخلق السيئ الأخلاق الصالحة كلها».

وقد يجتمع في المرء إسلام وجاهلية، فعنِ الْمَعْرُورِ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إني سَابَبْتُ رَجُلاً، فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لي النبي صلى الله عليه وسلم: « يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ ».

ومنَ الناس من يكون فيه إيمان وشعبة من النفاق، كما قال ابن تيمية: «وَيُقَالُ: «الْإِنْسَانُ قَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ شُعْبَةٌ مِنْ نِفَاقٍ وَكُفْرٍ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ إيمَانٌ, كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ», قال ابن القيم: «فهذا نفاق عمل قد يجتمع مع أصل الإيمان ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم, فإن الإيمان ينهى المؤمن عن هذه الخلال فإذا كملت في العبد ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها فهذا لا يكون إلا منافقا خالصا».

قال الخطابي: «هذا القول إنما خرج على سبيل الإنذار للمرء المسلم، والتحذير له أن يعتاد هذه الخصال، فتفضي به إلى النفاق، لا أن من بدرت منه هذه الخصال، أو فعل شيئاً من ذلك من غير اعتياد أنه منافق», وهذا يبين لنا أن هذه الأخلاق السيئة التي حذر الإسلام منها من الكذب، وخلف الوعد، وخيانة الأمانة، والغدر، والفجور دليل على ضعف الإيمان، إذ الأخلاق نبتة وثمرة من ثمار الإيمان.

فقوله: «وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»، أي: مال عن الحق، واحتال في ردِّه وإبطاله وقال الباطل والكذب, قال أهل اللغة: أصلُ الفُجُورِ الْمَيْلُ عَنْ الْقَصْدِ قَالَهُ النَّوَوِيُّ, قال الهَرَوِيُّ: «أصلُ الفجور: الميلُ عن القصد وقد يكونُ الكذبَ», وَقَالَ الْقَارِي: أَيْ شُتِمَ وَرُمِيَ بِالْأَشْيَاءِ الْقَبِيحَةِ والبهتان, وقد قال صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثما أن لا يزال مخاصماً».

ويعني بالفجور أنْ يخرج عن الحقِّ عمداً حتى يصير الحقُّ باطلاً والباطلُ حقاً، وهذا مما يدعو إليه الكذبُ، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إيَّاكم والكَذِبَ، فإنَّ الكذِبَ يهدي إلى الفُجور، وإنَّ الفجور يهدي إلى النارِ», وقال: «إنَّ أبغضَ الرجال إلى الله الألدُّ الخَصِمُ», وقال: «إنَّكم لتَختَصمون إليَّ ولعلَّ بعضَكُم أنْ يكونَ ألحنَ بحُجَّته من بعض ، وإنَّما أقضي على نحو مما أَسْمَعُ، فمن قضيتُ له بشيءٍ من حقِّ أخيه فلا يأْخُذْهُ، فإنَّما أقطع له قِطعةً مِنَ النَّار », وعن ابن عمر عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ خَاصَمَ في باطلٍ وهو يعلَمُهُ لم يَزَلْ في سَخَطِ الله حتى يَنزِعَ », وفي رواية له: «ومَنْ أعانَ على خصومةٍ بظلم فقد باء بغضب من الله» .

والفجور في الخصومة حرام كما ثبت في الحديث، والخصومة مبدأ الشر، وهي توغر الصدر وتهيج الغضب، وإذا هاج الغضب حصل الحقد بين المسلمين، فأطلق كل واحد منهم لسانه في حق الآخر, قال بعضهم: ما رأيت شيئاً أذهب للدين ولا أنقص للمروءة، ولا أضيع للذة، ولا أشغل للقلب من الخصومة.

فإذا كان الرجلُ ذا قدرةٍ عند الخصومة ـسواء كانت خصومتُه في الدِّين أو في الدنياـ على أنْ ينتصر للباطل، ويُخيل للسَّامع أنَّه حقٌّ، ويوهن الحقَّ ويخرجه في صورة الباطل، كان ذلك مِنْ المحرَّمات، ومن أخبث خصال النفاق.

ومن علامات الفجور في الخصومة: الغلظة في الإنكار -التي يجب أن توجه للكفار والمنافقين المحاربين-, وإساءة الظن, وشق الصدر والدخول في النيات, ونقل الكلام دون تبين, والسخرية والاستهزاء والتطاول, والغيبة والنميمة, والفرح بأخطاء الآخرين, والتشهير بخطأ الآخرين.

بينما القصدُ والرحمة وحب الخير للناس وطلب هدايتهم -لا التشفي بهم- من صفات المؤمنين, الذين وصفهم الله بأنهم ?رحماء بينهم?, قال شيخ الإسلام عن خصومه الذين وشوا به عند السلطان حتى تسببوا بسجنه: «أنهم إما مجتهدون مصيبون فلهم أجران, وإما مجتهدون مخطئون فلهم أجر واحد, وإما مذنبون فالله يغفر لنا ولهم», وقال رحمه الله: «هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني فإنه وإن تعدى حدود الله في بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبية جاهلية، فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقوله وأفعله، وأزنه بميزان العدل، وأجعله مؤتماً بالكتاب الذي أنزله الله وجعله هدى للناس حاكماً فيما اختلفوا فيه» .