هل بدأت موجة التحرر الثانية في القارة السمراء؟

خبراء: رغبة وإرادة التحرر بدأت بالفعل.. وفرنسا تتحكم في البنك المركزي لـ14 دولة إفريقية

  • 41
الفتح - القارة السمراء أرشيفية

لا تكف القارة السمراء منذ فترة عن توجيه ضربات متتالية للمصالح الفرنسية والغربية داخلها؛ فمن أحداث مالي وبوركينا فاسو والنيجر والجابون وغيرهم نرى مدى تأثر مصالح باريس سياسيًا واقتصاديًا مع تنامي الدورين الصيني والروسي داخل القارة؛ وأمريكا تسعى لمصالحها فقط خاصة أنها صاحبة مصلحة في إحلال محل فرنسا، علاوة على قرب إجراء الانتخابات الرئاسية بها وعدم رغبتها في الاندفاع لمواجهات خارجية جديدة.

وقد بلغ عجز الميزانية الفرنسية رقمًا قياسيًا جديدًا في النصف الأول من العام الجاري وهو 169 مليار يورو، خاصة أن الشركات الفرنسية لها مصالح اقتصادية كبرى ومتنوعة في الجابون - المستعمرة الفرنسية السابقة على سبيل المثال، وقد تأثرت بشدة جراء الانقلاب العسكري بها. 

كما توجد نحو 80 شركة فرنسية مسجَّلة في الجابون. وبعد الانقلاب مباشرة أعلنت مجموعة "إيراميت" للتعدين -التي تعد إحدى أكبر الشركات الفرنسية هناك- وقف أنشطتها مؤقتًا لسلامة موظفيها وأمن العمليات، لكنها أعلنت بعد ذلك استئناف أنشطتها تدريجيا.

في هذا الصدد، قال الدكتور مختار غباشي، المحلل السياسي والأمين العام لمركز الفارابي للدراسات السياسية والاستراتيجية، إن الانقلابات في الساحة الإفريقية سواء بوركينا فاسو أو النيجر أو الجابون أو دولة مالي أو إفريقيا الوسطى أو غيرها من تلك الدول، محسوبة على الموقف والدور الفرنسي داخل الساحة الإفريقية.

وأضاف غباشي لـ "الفتح": معلوم أن باريس تتحكم في البنك المركزي الخاص بأربعة عشرة دولة أفريقية، إضافة إلى أن صندوق السيادة الخاص بهذه الدول موجود لدى البنك المركزي الفرنسي؛ وبناء عليه فالأمر مهم جدًا ويجب أن نعلم أن فرنسا تعتمد –وهذا بموجب التسريبات التي تمت مؤخرًا- في جزء كبير جدًا من احتياجاتها على إفريقيا سواء اليورانيوم خصوصًا من النيجر، أو الذهب أو المصادر الطبيعية الأخرى كالنفط والمنجنيز وغيرهما؛ وذلك بسبب تنوع ما لدى تلك الدول -التي تحدث بها هذه الانقلابات- من ثروات طبيعية.

وأردف أن هذه الانقلابات تحدث على أمل خروج الطرف الفرنسي منها والتخلص من هيمنته، وربما على أمل وجود الطرفين الروسي والصيني وهما الأكثر وجودًا وسيطرة على مقدرات الكثير من الدول الإفريقية، وهناك ميل إفريقي شعبي للتحرر من هذا الاستعمار والوجود الغربي الأمريكي، واستبدال ذلك بشكل من أشكال الشراكة والتعاون مع الجانبين الصيني والروسي.

وتابع أن الدور الفرنسي يتأثر بشدة بتلك الأحداث ويضمحل وجوده بمرور الوقت داخل العديد من دول القارة السمراء، وهناك إرادة قوية وكبيرة داخل الكثير من دول القارة الإفريقية لضرورة التحرر من هذا الوجود الفرنسي والغربي داخل القارة.

في حين، قال السفير جمال طه، الدبلوماسي السابق والباحث في شؤون الأمن القومي، إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وضع نهاية لسياسة احتواء المستعمرات التي بدأها سلفه "شارل ديجول" في ستينيات القرن الماضي، ومنح بموجبها استقلالًا شكليًا للمستعمرات، بعدها سقطت المستعمرات واحدة تلو الأخرى. وبعد شهور من انسحاب فرنسا من مالي، وأيام قليلة من طرد بوركينا فاسو للقوات الفرنسية، وإلغاء الاتفاق العسكري، خرج ماكرون بداية مارس عام 2023م، في جولة إفريقية شملت الجابون وأنجولا والكونغو "برازافيل" والكونغو الديموقراطية، باحثًا عن النفوذ في مناطق بعيدة عن المستعمرات الفرنسية السابقة بمنطقة الساحل المتمرد، وعرض استراتيجيته الإفريقية الجديدة «تعميق الشراكة بين فرنسا وأوروبا والقارة الإفريقية»، في محاولة للتغطية على النكسة التي لحقت بسياسته الخارجية، وانعكاساتها على الداخل الفرنسي.

وأكد أن انقلابات مالي وبوركينا فاسو والنيجر تذرعت بإعادة الأمن ومحاربة الجماعات الإرهابية، لكن الجميع يعلم أنها موجة ثانية للتحرر الوطني في القارة، لكن قادتها لا يمتلكون أدوات تحقيق الاستقرار؛ مما يفسر موجات تدفق اللاجئين والمهاجرين نحو بلدان شمال إفريقيا، خاصة مصر وتونس وليبيا طمعًا في الوصول لأوروبا، وهربًا من القادم الأسوأ. في الجهة المقابلة، سحبت فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي رعاياهم من النيجر، وعلقوا التعاون الأمني، وأوقفوا المساعدات لنيامي؛ ما دفع قادة الانقلاب للرد بإلغاء اتفاقيات التعاون العسكري مع فرنسا.

فرنسا تدرك حتمًا ما يريده شعوب القارة السمراء؛ لذلك كان رد فعلها عصبيًّا بعض الشيء تجاه تلك الأحداث لا سيما في ضوء أنها اعتبرت مشاريع التوسع العسكري الروسية في مالي تدخل ضمن نطاق الرد الروسي على انحيازها لأوكرانيا؛ وبناء عليه تمثل تهديدًا كبيرًا لمصالح باريس التاريخية داخل القارة؛ فصعَّدت فرنسا تلك الأزمة للاتحاد الأوروبي على اعتبار أنها امتداد للمواجهة الغربية مع الروس في الحرب الأوكرانية، لكن الاتحاد الأوروبي خذلها واكتفى بالتأييد الشكلي لأنه لا يريد مزيدًا من التورط الخارجي، إضافة لخوفه من انفجار وتدفق موجات اللاجئين وزيادة أعمال العنف داخل بلاده.