الأصل في الكلام حمله على الحقيقة لا المجاز (2)

  • 74

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد تكلمنا في المقال السابق عن قاعدة: "الأصل في الكلام حمله على الحقيقة لا المجاز"، وفي هذا المقال نذكر كلام أهل العلم في ذلك.

فمِن ذلك: ما وَرَد عن محمد بن الحسن الشيباني (ت: ١٨٩ هـ) (مقدمة/ 232 ت: محمد بوينوكالن): (أن ‌الأصل ‌في ‌الكلام ‌الحقيقة، وأنه لا يجوز ترك المعنى الحقيقي للكلمة بدون دليل يوجب ذلك)، وقال قوام السنة إسماعيل بن محمد الأصبهاني (ت: ٥٣٥هـ) في كتابه: "الحجة في بيان المحجة" (2/ 207): (وَمَتى أمكن أَن يحمل الشَّيْء عَلَى حَقِيقَته، لم يجز أَن يحمل عَلَى ‌الْمجَاز؛ لِأَن الْحَقِيقَة أصل صَحِيح، وَالْمجَاز لَا أصل لَهُ).

وقد حكى الرازي في كتابه المحصول، الإجماع على ذلك، فقال: (إجماع الكل على أن "‌الأصل ‌في ‌الكلام ‌الحقيقة"، وروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال ما كنتُ أعرف معنى الفاطر حتى اختصم إليَّ شخصان في بئر، فقال أحدهما: فطرها أبي -أي: اخترعها-. وقال الأصمعي: ما كنت أعرف الدهاق حتى سمعت جارية بدوية تقول: اسقني دهاقًا -أي: ملآنا-، فها هنا استدلوا بالاستعمال على الحقيقة؛ فلولا أنهم عرفوا أن ‌الأصل ‌في ‌الكلام ‌الحقيقة وإلا لما جاز لهم ذلك).

ومن اللافت للنظر هنا: أن الرازي استشهد على أن قاعدة: "الأصل في الكلام الحقيقة" بما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: ما كنت أعرف معنى الفاطر حتى اختصم إلي شخصان في بئر، فقال أحدهما: فطرها أبي -أي: اخترعها-، وكل كتب الأصول والبلاغة -تقريبًا- استشهدت بهذه الراوية على أنَّ معنى "الأصل من الكلام ما يتبادر من المعاني للذهن"، وهذا ما أكد عليه العلوي في كتابه: (الطراز 1/ 44) بقوله: (ولما كان ذلك -يعني أن الأصل المجاز- فاسدًا، علمنا أن الأصل في الكلام هو الحقيقة، ويؤيّد ما ذكرناه ما روى عن ابن عباس أنه قال: ما كنت أدرى ما الفاطرة، حتى اختصم إلّى رجلان في بئر، ‌فقال ‌أحدهما: ‌فطرها ‌أبي -أي: اخترعها-؛ فلولا أن السابق من الإطلاق في الكلام هو الحقيقة، لما فهموا تلك المعاني).

وهذه الرواية وغيرها، صريحة في أن الصحابة -رضي الله عنهم- تعاملوا مع آيات الأسماء والصفات بمقتضى ظاهرها، ومعانيها الكلية المتبادرة للذهن، بلا تكييف أو تشبيه أو تحريف، وهذا منهجهم، ولم يتكلفوا تأويلها بما يخالف هذا الظاهر كما فعلت فِرَق المتكلمين، وهو ما صرَّح به الرازي بقوله: (فها هنا استدلوا بالاستعمال على الحقيقة، فلولا أنهم عرفوا أن ‌الأصل ‌في ‌الكلام ‌الحقيقة وإلا لما جاز لهم ذلك)، وأكَّد العلوي أن هذه الحقيقة هي المعاني بقوله: (فلولا أن السابق من الإطلاق في الكلام هو الحقيقة، لما فهموا تلك المعاني). 

إذًا الصحابة -رضي الله عنهم- أدركوا معاني الأسماء والصفات على المعنى اللغوي الكلي المتبادر للذهن، ولم يفوِّضوا المعنى كما تزعم ثلة من فرق الكلام التي ولدها مخاض المنطق اليوناني والمذهب الاستشراقي، ليتبين بذلك أن ما قام به أولئك -الذين زعموا وجوب صرف الصفات الإلهية الخبرية والفعلية عن ظاهرها، وجزموا بأن هذا الظاهر غير مراد، فراحوا يتأوّلونه على نهجٍ حادث وفكر دخيل في تاريخ الإسلام-، مخالف لنهج سلف الأمة، خير القرون؛ صحابة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، مَنْ اختارهم الله لنزول الوحي بين ظهرانيهم، وهم العرب الخُلص أئمة اللغة وأرباب الفصاحة والبلاغة، الذين مدح الله في كتابه فهمهم ورضي عنهم، فطريقتهم أهدى سبيلًا وأقوم قيلًا، فمنهج الصحابة ظاهر في الأخذ بحقائق المعاني، لا كما فعل المتكلمون وقالوا -بعد الجزم بأن الظاهر غير مراد- بوجوب صرف اللفظ عن ظاهره ثم (أ) تأويله تأويلًا إجماليًّا بدون تحديد معنى معين للصفة، وهو ما يسميه المتمشعرة: "التفويض". (ب) أو تأويله تأويلًا تفصيليًّا بتحديد معنى معين للصفة؛ فاليد معناها القدرة أو النعمة، والعين معناها الرعاية، وهكذا... وكل هذا تحريف وتعطيل مخالف لمنهج الصحابة -رضي الله عنهم- ومَن تابعهم. 

ويعود الرازي ويؤكد في تفسيره (21/ 530): (أَنَّ ‌الْأَصْلَ ‌فِي ‌الْكَلَامِ ‌الْحَقِيقَةُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ظَاهِرُ الْآيَةِ مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَتِهَا)، فسبحان الله! يصرِّح -رحمه الله- بأن ظاهر الآية يُحْمَل على ظاهره، ثم تراه في كتابه أساس التقديس يؤول كل آية من آيات الصفات بما لم يُقِم عليه ولو دليلًا واحدًا، وإنما قرينة متوهمة ليس لها حظ من الصحة، والله المستعان. ونحن إذا حملنا النصوص في صفة اليد -مثلًا- على حقيقتها لم يلزم منها محظور؛ لا في ذات الله ولا في صفاته، فليس هناك محذور في أن نقول: لله يد حقيقية بها يقبض ويبسط، ولكنها لا تشبه أيدي المخلوقين. 

وللحديث بقية -إن شاء الله-.