إلف المأساة

فاطمة المرشدي

  • 21

منذ بداية الحرب على إخواننا لم يعد شيء كما كان، لقد تغير في الجميع شيء بعد كل هذا الهوان، صور تحاصرنا في الصحو والمنام وعبارات الأنين تدوي في الآذان، الأخبار تحاصرنا وتحصرنا داخل جروحنا بقلوب تنزف وعيون تذرف حتى وإن  عجزت الأخبار عن الوصول إلينا  طاردناها حتى تصل إلينا واستوثقنا من مصادرها وإن كنا غير متابعين فيما سبق.. إذن ما كل هذا التحول؟

ما حدث هو أن كل صورة تنكأ  في القلب جرحًا وكل صرخة تجدد الألم، فلم يتوقف الوجع عند الصدمة الأولى في كل مرة يبدأ فيها البث من جديد بعد انقطاع، ولم يقل الحزن بمرور الوقت ولم نألف مشاهد الوداع التي تكاد تفتك بالقلب وكلما تكررت كان ألمها أوقع وأكبر، لم يعودوا  بالنسبة لنا مجرد أرقام في عداد الشهداء والجرحى أو حتى صورًا   نبكي فيها على براءة ملامح أو صغر سن أو على شاب يافع أو مُسن، الأمر كان عظيمًا وبات أعظم، لقد أصبحوا بالنسبة لنا حياة كاملة نتقاسم معهم كثيرًا من تفاصيلها، أصبحنا نعرف أسماءهم وصورهم وأحلامهم  وأفراحهم وأحزانهم، نعرف كيف كانت تمضي أيامهم وكيف صارت تؤلمنا لتغير ملامحهم، خلال تلك الأيام توقفت حياتنا  في كثير من الأحيان على الاطمئنان على سلامتهم تسعدنا ابتسامتهم رغم الألم وتؤلمنا  جراحهم رغم الأمل في أن نرى انتصارهم واستقرارهم واقعًا  محققًا..

لقد أيقظوا فينا معنى كوننا جسدًا واحدًا فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) والأصل أننا كذلك ولكن هذه المرة تجسد ذلك المعنى بوضوح فقد انتفض ذلك الجسد ولم يعد يسكن ألمه شيئًا سوى الشفاء التام فمهما طال بإخواننا الألم وانتكأ الجرح مرة بعد مرة فإننا لن نألف وجوده ولن نعتاد رؤيته ينزف، لن نعتاد أبدًا رؤية هذا الخراب والدمار ولن نعتاد مشاهدة الدماء ودموع الأبرياء، لن نعتاد هذا التشريد ومحاولاتهم جاهدين إيجاد حياة بين هذا الركام.

إننا حتى نستصعب أن نألف حياتنا التي اعتدناها منذ سنين   وألفنا نعمها حتى أننا لم نكن نستشعر تلك النعم حيث إننا اعتدناها، الآن عرفنا ما قيمة الذي اعتدناه  وماالذي لا يمكن أن نعتاده مرة ثانية.