عاجل

سلسلة نساء رائدات 2

  • 163
أرشيفية

سلسلة نساء رائدات

كنا ومازلنا نتقفى أثر الرائدات في ذلك البحرالواسع الذي لايعلم له حد ولا يكفي للتنقيب عن لؤلؤاته وصب ولا كد

وهانحن ننهل منه باقتناص رائدة جديدة، وصحابية جليلة، كانت من أشرف نساء مكة نسبًا، ومن أسبقهن دخولًا للإسلام، تزوجت ثلاثة من أجل الصحابة شأنًا، وأقربهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

عن أسماء بنت عميس أتحدث، تلك التي ضربت لنا مثلا مبهرًا كجمال الجنان، يقتدي به في كل زمان؛ ﻷن نجاحها قد اكتمل اﻷركان في النفس واﻷسرة والعمل وخدمة اﻷوطان.

أما عن نجاحها في نفسها، بأن أدركت أن لذة اعتناق الحق -وإن كان فيه اﻷذى والمهانة- والتمسك بصحيح الاعتقاد أجل وأعظم من كل ملذات الدنيا وإن اجتمعت، فكانت -رحمها الله- من السابقين في الإسلام، وتحملت في سبيل ذلك شتى أنواع العذاب شأنها في ذلك شأن جميع المسلمين حينئذ، وأدركت قيمة عقلها وكياسته حتى شهد لها الجميع بذلك، وقد ورد أن عليًّا -رضي الله عنه- جعلها تقضي بين ابنيها حين اختلفا، لعلمه بفطنتها ورجاحة عقلها، أدركت أن إرضاء الله خير من إرضاء الذات؛ فهاجرت الهجرتين وتحملت مشقتهما، كأن لسان حالها يقول: "سأبذل جاهي لله ﻷكون وجيهة عندك ياالله".

أدركت أن المعتقدات والامتثال للدين لايخضع لنوائبها وأحزان قلبها، بل كانت تخضع لأوامر دينها في كل أحوالها، ورد أنه عندما توفي عنها زوجها -جعفر بن أبي طالب- بكت كثيرًا وناحت، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا أسماء لا تقولي فجرًا، ولاتضربي خدًا"، فسمعت وأطاعت طمعًا في رضا الله، فهكذا تكون الرائدات حياتهن وآلامهن تخضع لمعتقداتهن، وليس العكس.

أما عن نجاحها في أسرتها، فقد أدركت حقيقة أن تكون زوجة وشريكة حياة عمليًا ووجدانيًا، فكانت تشارك زوجها جعفر في الدعوة إلى الإسلام والتبشير برسالته وهما في أرض المهجر، حيث امتدت مدة إقامتهما بها 12 عامًا، وكذلك حينما توفي جعفر وتزوجت من أبي بكر الصديق، فكانت خير زوجة ونعم المعين، تشد أزره برعايتها وتسانده بحبها، وتقدم له الرأي والمشورة.

أدركت أن رفعة قدر زوجها حيًا كان أو ميتًا من رفعتها ورقي قدرها، ورد أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال لها: "كان الله قد جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة"، وكانت قد قطعت ذراعاه في غزوة مؤتة، ففرحت وقالت "بأبي أنت وأمي، فأعلم الناس بذلك يا رسول الله"، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم. 

أدركت معنى أن تكون أمًا، ومدى عبء تقوية وتد الوصال بين أبنائها، أما عن نجاحها فيما ارتضته عملا لها، فقد ارتضت من تربية أبنائها مهنة لها، ومحط اهتمامها الذي لاتقصر فيه، وإن تكالبت عليها النوائب، فغالبت حزنها على فراق زوجها الثاني أبي بكر الصديق، وانصرفت إلى تربية أبنائها وأمور دينها، فضرب بها خير مثال في فطنتها في التربية وتعليم أبنائها أن المرء يقاس بعمله وعلمه لا بجاهه ونسبه، وكذلك ضرب بها خير مثال في العدل بين أبنائها.

ورد أن ابنها محمد بن جعفر ومحمد بن أبي بكر، قد اختلفا، فقال أحدهما للآخر: "أنا أكرم منك، وأبي خير من أبيك"، فقال علي ابن أبي طالب: "اقضي بينهما يا أسماء"، فقالت: "مارأيت شابًا من العرب خير من جعفر، ولا رأيت كهلًا خير من أبي بكر"، فقال علي: "ما تركت لنا شيئًا، ولو قلت غير ذلك لمقتك"، فأنهت خلاف ابنيها وأنصفت زوجيها بكل حنكة ودهاء.

بجانب هذا كانت فقيهة جليلة، وراوية للحديث نبيلة، وكانت تحسن تفسير الرؤى، فأرسل لها عمر يسألها في رؤية رآها وهي "أنه رأى ديكًا أحمر، ينقره ثلاث نقرات بين الثنة والسرة، فقالت أسماء: "قولوا له فليوص"، أي أنه سيموت قريبًا، وعليه أن يكتب وصيته، وبعدها بقليل قتل عمر -رضي الله عنه- بيد أبي لؤلؤة المجوسي، الذي طعنه ثلاث طعنات ليلقي حتفه على يد ذلك المجوسي.

أما عن نجاحها في خدمة وطنها، فاحتسابها ابنها في أحداث فتنة تمر بوطنها خدمة له، وعلمًا للفقه وتعليمه، وروايتها للحديث

خدمة كذلك لوطنها، وتربيتها لأبنائها لتُخرج أفرادًا صالحين مصلحين في مجتمعهم خدمة لوطنها، فرحمها الله من رائدة عظيمة رحلت لتلقى ربها في عام أربعين هجريًا، مخلدة لنا ذكراها وماثلة لنا قدوة نخطو خطاها بعد عمر حافل بالطاعة والعبادة وحسن السمت والمعشر.